وعن ابن عباس قال: أخبر الله سبحانه المؤمنين أن الدنيا دار بلاء, وأنه مبتليهم فيها, وأمرهم بالصبر, وقال ابن عاشور في تفسيره: { ولنبلونكم}: البلو: هو الاختبار وتعرف حال الشيء. والمراد بالابتلاء: الأمر والنهي في التكليف ، فإنه يظهر به المطيع والعاصي والكافر ، ولما كان التكليف مبينا لأحوال نفوس الناس في الامتثال ،وممحصا لدعاويهم ،وكاشفا عن دخائلهم ،كان مشتملا على ما يشبه الابتلاء ، وإلا فإن الله – تعالى – يعلم تفاصيل أحوالهم ، ولكنها لا تظهر للعيان للناس إلا عند تلقي التكاليف ، فالله شرع الجهاد لنصر الدين ، ومن شرعه يتبين من يجاهد ومن يقعد عن الجهاد ، ويتبين من يصبر على لأواء الحرب ومن ينخزل ويفر ، فلا تروج على الناس دعوى المنافقين صدق الإيمان ، ويعلم الناس المؤمنين الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه. أيها المسلمون فاللهَ يبتلي عبادَه حتى يُظهِرَ ويُمَيِّزَ لعبادِه مَنْ هو الصّادقُ المجاهِدُ الذي يَصبِرُ على المشَقّاتِ, ومَنْ هو غيرُ الصّادقِ الذي لا يَصبِر، وليسَ هذا معناهُ أن اللهَ لم يكُنْ عالما مَنْ يُجاهِدُ ويصبِرُ ، فيبتلي النّاسَ لينكشِفَ له ذلك، فليسَ هذا هو المعني، فاللهُ لا يَخفَى عن عِلمِهِ شيء، وهو سبحانه وتعالى يَعلَمُ بعلمِهِ الأزليّ كلّ شيء، ويَعلمُ ما كانَ وما يكونُ وما لا يكون ، قال الله تعالى: { وَأنّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيءٍ عِلمًا} الطلاق:12.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك:حدثني عليّ, قال: ثنا أبو صالح, قال: ثني معاوية, عن علي, عن ابن عباس, قوله ( حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ), وقوله وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ ونحو هذا قال: أخبر الله سبحانه المؤمنين أن الدنيا دار بلاء, وأنه مبتليهم فيها, وأمرهم بالصبر, وبشَّرهم فقال: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ثم أخبرهم أنه هكذا فعل بأنبيائه, وصفوته لتطيب أنفسهم, فقال: مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا فالبأساء: الفقر, والضّراء: السقم, وزُلزلوا بالفتن وأذى الناس إياهم. حدثني يونس, قال: أخبرنا ابن وهب, قال: قال ابن زيد في قوله ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ) قال: نختبركم, البلوى: الاختبار. وقرأ الم * أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ قال: لا يختبرون وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ... الآية. واختلفت القرّاء في قراءة قوله ( وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ), فقرأ ذلك عامة قرّاء الأمصار بالنون ( نبلو) و ( نعلم), ونبلو على وجه الخبر من الله جلّ جلاله عن نفسه, سوى عاصم فإنه قرأ جميع ذلك بالياء والنون هي القراءة عندنا لإجماع الحجة من القراء عليها, وإن كان للأخرى وجه صحيح.
يعيد الاحترام للذين أسأنا إليهم و يجردهم من الشعور بالغضب. يفتح باب التواصل الذي أوصدناه. هو شفاء الجراح والقلوب المحطمة. الاعتذار فن له أصول وقواعد أهمها عنصر التوقيت وحسن اختياره هو أول خطوة في فكر الاعتذار. فمن الضروري اختيار الوقت المناسب للاعتذار لمن أخطأنا في حقه، فـ(الامور مرهونة بأوقاتها) كما قال الإمام علي. فكر ملياً في أمر الاعتذار، حاول أن تحدد أسلوبه قبل عرضه. أرقّ ما قيل في قبول الاعتذار .. ماذا قال سبط النبي؟. فالتفكير العميق يفسح المجال لتقديم عرض عقلاني ومقبول، قال الإمام علي: ( إذا قدمت الفكر في جميع أفعالك حسنت عواقبك)2 حدد موضوع الخلاف بعناية لا سيما وإن جاء الاعتذار بعد مدة من الزمن، حاول أن لا تتهرب منه بالتناسي. اعتمد التعابير الملطفة والإشارات العفوية التي تنم جميعها عن مشاعرك الصادقة في اعتذارك. وعندما تكون صادقاً في مشاعرك فإنها ستقع في القلب المقابل فيرضى فيكلل أداؤك بالنجاح. يجب عدم الاعتذار للشخص الذي أخطأنا في حقه أمام الغير حتى لا نجرح مشاعره. قبول العذر تحث التعاليم والوصايا الدينية على قبول المعتذر، والصفح عنه والتجاوز عن أخطائه، بل وتحث على التماس العذر له إن لم يكن له عذراً يقول أمير المؤمنين: (اقبل عذر أخيك وإن لم يكن له عذرا فالتمس له عذراً)3 فكن قابلاً للعذر، متغافلاً عن تلك المشاحنات، تعش سعيداً مع الآخرين…4 1.
ا لخطبة الأولى (الاعتذار، وخطورة رفض الاعتذار) مختصرة الحمد لله رب العالمين. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له. وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.
وإنْ ظَهرَ الخطأُ في التصرفِ، أو لم يكنْ له فيه عذرٌ مقبولٌ؛ فليس ثمَّ إلا المبادرةُ بالاعترافِ الصادقِ بالزللِ وانعدامِ العُذْرِ، وطَلَبِ المسامحةِ؛ فماءُ الاعترافِ يمحو دَنَسَ الاقترافِ. إذا كان وجهُ العذرِ ليس بواضحٍ فإنَّ اطِّراحَ العذرِ خيرٌ من العذرِ والمبادرةُ بالاعتذارِ والاستسماحِ من قبيلِ المسارعةِ في الخيراتِ المأمورِ بها شرعًا، والمتفَقِ على استحسانِها طَبْعًا. شجاعة الاعتذار - طريق الإسلام. واختيارُ الأسلوبِ الأمثلِ في الاعتذارِ بحسَبِ ما يناسبُ الخطأَ ومن وقعَ عليه مما لا يَكْمُلُ ولا يَجْمُل الاعتذارُ إلا به؛ إذ جنايةُ العلنِ لا تُعالَجُ باعتذارِ السرِّ، والجنايةُ المتعديةُ لا يمسحُها إلا الاعتذارُ الذي يتعدَّى ويصلُ كلَّ مَن طالَه ضررُ الجنايةِ وإنْ تعدَّدُوا. وتمهيدُ لقاءِ المعتذِرِ بالمُعتذَرِ منه، وإِلانةُ الحديثِ له مِن خيرِ ما تُسَلُّ به سَخِيمَةُ قلبِه، قال ابنُ حزْمٍ: "اللِّقَاءُ يَذْهَبُ بالسخائمِ (أي: الضغائنِ) ؛ فَكَأَنَّ نظرَ الْعينِ للعينِ يُصْلِحُ الْقُلُوبَ". وكما أنَّ للاعتذارِ أَدَبًا يَلْزَمُ المعتذِرَ؛ فإنَّ له أدبًا ينبغي للمعتَذَرِ منه أنْ يراعيَه؛ وذلك أنْ يَبْذلَ وسْعَه في تلمُّسِ الأعذارِ لمن أخطأَ عليه؛ فذاك من استواءِ عقلِه وإراحةِ نفسِه، قال عمرُ رضي اللهُ عنه: "أعقَلُ الناسِ أعذَرُهم"، قال جعفرُ بنُ محمدٍ: "إذا بَلَغَك عن أخيك الشيءُ تُنْكِرُه؛ فالتمسْ له عذرًا واحدًا إلى سبعينَ عذرًا، فإنْ أصبْتَه، وإلا قُلْ: لعلَّ له عذرًا لا أعرفُه".
وإذا كان الخطأ من طبع ابن آدم فإن ما يمحو أثر الخطأ هو الاعتذار، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كلُّ بني آدمَ خطَّاءٌ، وخيرُ الخطَّائينَ التَّوَّابونَ ». وقد قيل: ماء الاعتراف يمحو دنس الاقتراف. وإذا رجعت إلى هذه الثلة المباركة أنبياء الله ورسله الذين هم خير البشر وصفوتهم لوجدتهم لا يتكبرون عن الاعتذار حين يُحتاج إليه. هذا نبي الله موسى عليه السلام حين صحب الخضر عليه السلام فنهاه الخضر عن سؤاله عن شيء حتى يحدثه به ويوقفه على حقيقة الأمر، فلما خالف نبي الله موسى عليه السلام الشرط اعتذر عن ذلك فقال: { لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا} [الكهف: 73]. وهذا نبي الله نوح عليه السلام اعتذر لربه تعالى من سؤاله النجاة لولده الذي لم يكن مؤمنا: { قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ۖ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ} [هود: 47]. وهكذا كان الصالحون لا يتكبرون عن الاعتذار إذا بدر منهم ما يستدعيه. وروى أهل السير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسوي الصفوف في غزوة بدر وكان في يده شيء يسوي به الصفوف، فرأى سواد بن غزية بارزا فطعنه في بطنه وقال له: « استو يا سواد ».