إن هذه البضعة من البقرة المذبوحة لا حياة فيها، ولا قدرة لها على الإحياء، ولكنها مجرد سبب ظاهر يكشف لبني إسرائيل عن كمال قدرة الله تعالى التي يشاهدون آثارها ولا يدركون كنهها، وكذلك يحيي الله الموتى بمثل الذي يرونه واقعاً أمامهم، ولا يدرون كيف وقع، وبمثل هذا اليسر الذي لا مشقة فيه ولا عسر. ثم قست قلوبكم من بعد ذلك. السؤال: ما الحكمة من أمر بني إسرائيل بذبح بقرة؟ - الجواب: ليكشف بجزء منها عن قاتل النفس المحرمة بغير حق، ولاختبار مدى انقيادهم للتكاليف، واستجابتهم لأوامر الله تعالى ولتعريتهم أمام أنفسهم بكشف تلكئهم في الاستجابة، وتعنتهم وتمحل المعاذير، وتلمس الحجج، ولفضح بذاءتهم وسلاطة ألسنتهم، وصفاقة قلوبهم. والله أعلم. السؤال: يفهم من قوله تعالى: وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها أن قتل النفس وقع قبل ذبح البقرة، وكأنه قيل: وإذ قتلتم نفساً فادارأتم فيها فقلنا اذبحوا بقرة فاضربوه ببعضها فما السر في تغيير ترتيب الحكاية؟ - الجواب: غير - سبحانه - ترتيب الحكاية لقصد - والله أعلم بمراده - تكرير التوبيخ والتقريع، فإن كل واحدة من قتل النفس المحرمة والاستهزاء بموسى عليه السلام، والشك في صدقه، وترك المبادرة إلى امتثال أمر الله تعالى، والتلكؤ في تنفيذه، وكثرة مراجعاتهم لموسى عليه السلام جناية عظيمة تستوجب إفرادها بالتوبيخ والتشنيع، ولو حكيت القصة على ترتيب الوقوع لما علم استقلال كل منها وإفراده بما يخصها من التوبيخ.
وهكذا نرى أن الجلود تقشعر من هول الوعيد بالنار.. ومجرد قراءة ما ذكره القرآن عنها.. وبعد ذلك تأتي الرحمة، وفي هذه الحالة لا تلين الجلود فقط ولكن لابد أن تلين القلوب لأنها هي التي تعطي اللمحة الإيمانية لكل جوارح الجسد. ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب). إذن فالقلب هو منبع اليقين ومصب الإيمان، وكما أن الإيمان في القلب فإن القسوة والكفر في القلب.. فالقلب حينما ينسى ذكر الله يقسو.. لماذا؟.. لأنه يعتقد أنه ليس هناك إلا الحياة الدنيا وإلا المادة فيحاول أن يحصل منها على أقصى ما يستطيع وبأي طريقة فلا تأتي إلا بالظلم والطغيان وأخذ حقوق الضعفاء، ثم لا يفرط فيها أبدا لأنها هي منتهى حياته فلا شيء بعدها. تفسير: (ثم قست قلوبكم من بعد ذلك فهي كالحجارة). إنه يجد إنساناً يموت أمامه من الجوع ولا يعطيه رغيفا.. وإذا خرج الإيمان من القلب خرجت منه الرحمة وخرج منه كل إيمان الجوارح.. فلمحة الإيمان التي في اليد تخرج فتمتد اليد إلى السرقة والحرام.. ولمحة الإيمان التي في العين تخرج فتنظر العين إلى كل ما حرم الله. ولمحة الإيمان التي في القدم تخرج فلا تمشي القدم إلى المسجد أبدا ولكنها تمشي إلى الخمارة وإلى السرقة.. لأنه كما قلنا القلب مخزن الإيمان في الجسم.
وقوله: مِنْ بَعْدِ ذلِكَ، قد قيل: من بعد إحياء الميت، ويحتمل بعد الآيات التي ذكرت، نحو مسخ القردة والخنازير ورفع الجبل وتفجير الأنهار من الحجر وغير ذلك. وقال بعض الحكماء: معنى قوله: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ، أي يبست. ثُمَّ قسَتْ قُلوبُكم.. – كلمةٌ طيبةٌ. ويبس القلب أن ييبس عن ماءين أحدهما: ماء خشية الله والثاني: ماء شفقة الخلق. ثم قال تعالى: فَهِيَ كَالْحِجارَةِ، وكل قلب لا يكون فيه خشية الله تعالى فهو كالحجارة. أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً، قال بعضهم: بل أشد قسوة مثل قوله تعالى: إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ [الصافات: 147] بمعنى بل يزيدون، وكقوله: كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ [النحل: 77] ، أي بل هو أدنى. وقال بعضهم: معناه وأشد قسوة الألف زائدة. وقال الزجاج:أو للتخيير يعني إن شئتم شبهتم قسوتها بالحجارة أو بما هو أشد قسوة فأنتم مصيبون كقوله تعالى: كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ [البقرة: 19] ثم قال تعالى: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ فأعذر الحجارة وعاب قلوبهم، حين لم تلن بذكر الله ولا بالموعظة فقال: وَإِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ، يعني الحجر الذي منه العيون في الجبل.
ماذا أُحاوِل أن أخبركَ يا صديقي؟ أرأيتَ كيف أن الأرضَ الجدباء، المُقفرة، يخرجُ من وسَطِها، حشائش خضراء، وبراعمًا تكادُ تُداس بالأقدام؛ لصغِرها! كذلك قلب الذي ينفع الناس، رُغم ما يُعانيه، رُغم "ظروفه" القاسية! قلبه متصحِّر، لكن تصحَّر قلبه، لا يُعارض إحسانه، وإقدامهُ على الحياة، هذا ما لم نستوعِبه أنا وأنت يا صديقي، هذا ما يجب تمامًا أن نُدركه! المُلمَّات لا تعني إعراضك عمَّن حولك، المُلمَّات والنوازِل التي تعصفُ بنا، لا تُبرِّر لنا قول " أنا ناقِص"! عند حلول أوّل "كارثة" جديدة! ثم قست قلوبكم فهي كالحجارة. عند قدوم أوّل شخص "يُفضفض" لنا! لا تعني أن نغفلُ عن قولهِ تعالى: ( فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِّكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ ۗ) [آل عمران:153]. ماذا أعني بهذا الكلام، يا صديقي؟ وجدتُ من النّاسِ يا صديقي، مَن يقلبُ قراءة أعمالكَ، وأقوالك، لمَّا تتحدَّث عن أوجاع أُمّتك، يُشفق عليك! يُشفق، رُغم أنك تجدُ لا مكان للشفقة هُنا، لكنَّ رأس شفقته، جاءَ من تصوّره أنَّك حمَّلت قلبك، وأنتَ "اللّي فيك مكفِّيك"! هُم لا يعلمون يا صديقي، أنّ بعض الجِراح، تُضمِّد جراح أخرى! هُم لا يعلمون، أنّ كثير ممّا أصابهم، خَلاصهم منه هو الإلتفات لغيرهِ!
قال - تعالى -: ﴿ إِنَّا كَفَيْنَاكَ المُسْتَهْزِئِينَ ﴾ [الحجر: 95]. قال ابن القيِّم - رحمه الله -: وَهُوَ الْحَسِيبُ كِفَايَةً وَحِمَايَةً ♦♦♦ وَالْحَسْبُ كَافِي الْعَبْدِ كُلَّ أَوَانِ [1] والتوكُّل على الله سببُ كفاية الله لعبده؛ قال - تعالى -: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3]؛ أي: كافيه كلَّ أموره الدِّينيَّة والدنيويَّة، والتوكُّل هو اعتماد القلْب على الله في حصول المطلوب، ودفْع المكروه، مع الثِّقة به، وفعْل الأسباب المأذون فيها شرعًا [2]. شرح اسم الله الكافي. قال بعضُ السلف: جعل الله - تعالى - لكلِّ عمل جزاءً من جنسِه، وجعل جزاءَ التوكل عليه نفسَ كفايته لعبده؛ فقال: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾، ولم يقل: نؤتِه كذا وكذا من الأجْر، كما قال في الأعمال؛ بل جعل نفسَه - سبحانه - كافيَ عبدِه المتوكِّلِ عليه، وحسبه وواقيه [3]. فلو توكَّل العبدُ على ربِّه حقَّ التوكل بأنِ اعتمد بقلْبه على ربِّه اعتمادًا قويًّا كاملاً في تحصيل مصالحه، ودفْع مضارِّه، وقويت نفسُه، وحسُن ظنُّه بربِّه، حصلتْ له الكفاية، وأتمَّ الله له أحوالَه، وسدَّده في أقواله وأفعاله، وكفاه همَّه، وجَلاَ غمَّه [4] ، فهناك لا تسأل عن كلِّ أمر يتيسَّر، وصعْبٍ يسهل، وخطوبٍ تهون، وكروبٍ تزول، وأحوالٍ وحوائجَ تُقضى، وبركاتٍ تنزل، ونِقمٍ تُدفع، وشرورٍ تُرفع [5].
ثالثاً: أنه يشرع للعبد أن يسأل اللَّه الكافي أن يكفيه شر الأعداء قال تعالى: {فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيم (137)} [البقرة]. فيقول: يا كافي اكفني شر فلان الذي ظلمه أو أذاه. روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أبي موسى أن النبي صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان إذا خاف من رجل أو من قوم قال: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَجْعَلُكَ فِي نُحُورِهِمْ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شُرُورِهِمْ» (¬13). الكافي (أسماء الله الحسنى) - ويكيبيديا. وروى البخاري في صحيحه من حديث ابن عباس قال: «حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ» قالها إبراهيم عليه السَّلام حين أُلقي في النار، وقالها محمد صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حين قالوا: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل (173)} [آل عمران] (¬14). رابعاً: إن اللَّه تعالى كفى المؤمنين شر أعدائهم في مواطن كثيرة فعلى سبيل المثال في غزوة بدر مع قلة عددهم ونقص عدتهم وضعفهم نصرهم اللَّه وكفاهم الأعداء، قال تعالى: {إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَن يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُم بِثَلاَثَةِ آلاَفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُنزَلِين (124)} [آل عمران].
(¬10) شرح رياض الصالحين (1/ 219 - 220). (¬11) انظر قصة الغلام في صحيح مسلم ص 1202 برقم 3005. (¬12) ص 559 - 560 برقم 3563، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح سنن الترمذي (3/ 464). (¬13) (32/ 493) برقم 19719 وقال محققوه: حديث حسن. (¬14) ص 865 برقم 4563. (¬15) انظر كتاب أخينا الشيخ عبد الهادي وهبي الأسماء الحسنى والصفات العلى ص217 - 221.
فلما بلغوا قمة الجبل فطلبوا منه أن يرجع عن دينه أبى، لأن الإيمان قد وقر في قلبه ولا يمكن أن يتحول أو يتزحزح، فلما هموا أن يطرحوه قال: اللَّهم اكفنيهم بما شئت - دعوة مضطر مؤمن- أي: بالذي تشاء ولم يعين، فرجف اللَّه بهم الجبل فسقطوا وهلكوا، وجاء الغلام إلى الملك فقال: ما الذي جاء بك أين أصحابك؟ فقال: قد كفانيهم اللَّه، ثم دفعه إلى جماعة آخرين وأمرهم أن يركبوا البحر في قُرقُور (سفينة). فإذا بلغوا لجة البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه فإن لم يفعل رموه في البحر، فلما توسطوا من البحر عرضوا عليه أن يرجع عن دينه - وهو الإيمان باللَّه - فقال: لا! الكافي (توضيح) - ويكيبيديا. فقال: اللَّهم اكفنيهم بما شئت: فانقلبت السفينة وغرقوا وأنجاه اللَّه» (¬10) (¬11). ثانياً: من كان عليه دين فليتضرع إلى اللَّه تعالى ليكفيه هم الدين روى الترمذي في سننه من حديث علي رضي اللهُ عنه: أَنَّ مُكَاتَبًا جَاءَهُ فَقَالَ: إِنِّي قَدْ عَجَزْتُ عَنْ كِتَابَتِي فَأَعِنِّي قَالَ أَلَا أُعَلِّمُكَ كَلِمَاتٍ عَلَّمَنِيهِنَّ رَسُولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَوْ كَانَ عَلَيْكَ مِثْلُ جَبَلِ صِيرٍ دَيْنًا أَدَّاهُ اللَّهُ عَنْكَ؟ قَالَ: قُلْ: «اللَّهُمَّ اكْفِنِي بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ وَأَغْنِنِي بِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ» (¬12).
ويُشرع للمسلِم أن يسأل ربَّه بهذا الاسم أن يكفيَه شرَّ مَن ظلمه وآذاه [12]. والحمد لله ربِّ العالمين، وصلَّى الله وسلم على نبينا محمَّد، وعلى آله وصحبه أجمعين. [1] "النونية" (2/ 233). [2] "القول المفيد على كتاب التوحيد" (2/ 228). [3] "بدائع الفوائد" (2/ 766-767). [4] "فتح الرحيم الملك العلاَّم" (ص: 53 - 54). [5] "تيسير الكريم الرحمن" (ص: 920). [6] جزء من حديث ص 279، برقم 2595، وصحَّحه الألباني - رحمه الله - في "صحيح سنن النسائي" (2/ 227). [7] "شرح رياض الصالحين" (1/ 219-220). [8] انظر: قصة الغلام في "صحيح مسلم" (ص: 1202) برقم (3005). [9] ص 559 -560، برقم 3563، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن غريب، وصحَّحه الألباني - رحمه الله - في "صحيح سنن الترمذي" (3/ 464). [10] (32/ 493) برقم (19719)، وقال محقِّقوه: حديث حسن. [11] (ص: 865) برقم (4563). [12] انظر: كتاب أخينا الشيخ عبدالهادي وهبي "الأسماء الحسنى والصفات العلى" (ص: 217-221).