فقال المسلمون: صدق الله ورسوله وهو أعظم الفتوح والله يا رسول الله ما فكرنا فيما ذكرت ، ولأنت أعلم بالله وبالأمور منا. وحذف مفعول فتحنا لأن المقصود الإعلام بجنس الفتح لا بالمفتوح الخاص. انا فتحنا لك فتحا مبينا بالخط العربي. واللام في قوله فتحنا لك لام العلة ، أي فتحنا لأجلك فتحا عظيما مثل التي في قوله - تعالى - ألم نشرح لك صدرك. وتقديم المجرور قبل المفعول المطلق خلافا للأصل في ترتيب متعلقات الفعل لقصد الاهتمام والاعتناء بهذه العلة. وقوله ليغفر لك الله بدل اشتمال من ضمير لك. والتقدير: إنا فتحنا فتحا مبينا لأجلك لغفران الله لك وإتمام نعمته عليك ، وهدايتك صراطا مستقيما ونصرك نصرا عزيزا. وجعلت مغفرة الله للنبيء - صلى الله عليه وسلم - علة للفتح لأنها من جملة ما أراد الله حصوله بسبب الفتح ، وليست لام التعليل مقتضية حصر الغرض من الفعل المعلل في تلك العلة ، فإن كثيرا من الأشياء تكون لها أسباب كثيرة فيذكر بعضها مما يقتضيه المقام وإذ قد كان الفتح لكرامة النبيء - صلى الله عليه وسلم - على ربه - تعالى - كان من علته أن يغفر الله لنبيه - صلى الله عليه وسلم - مغفرة عامة إتماما للكرامة فهذه مغفرة خاصة بالنبيء - صلى الله عليه وسلم - هي غير المغفرة الحاصلة للمجاهدين بسبب الجهاد والفتح.
وقال ابن عطية: وإنما المعنى التشريف بهذا الحكم ولو لم تكن له ذنوب ، ولهذا المعنى اللطيف الجليل كانت سورة إذا جاء نصر الله مؤذنة باقتراب أجل النبيء - صلى الله عليه وسلم - فيما فهم عمر بن الخطاب وابن عباس ، وقد روي ذلك عن النبيء - صلى الله عليه وسلم -. انا فتحنا لك فتحا مبينا ليغفر الله لك. والتقدم والتأخر من الأحوال النسبية للموجودات الحقيقية أو الاعتبارية يقال: تقدم السائر في سيره على الركب ، ويقال: نزول سورة كذا على سورة كذا ولذلك يكثر الاحتياج إلى بيان ما كان بينهما تقدم وتأخر بذكر متعلق بفعل تقدم و تأخر. وقد يترك ذلك اعتمادا على القرينة ، وقد يقطع النظر على اعتبار متعلق فينزل الفعل منزلة الأفعال غير النسبية لقصد التعميم في المتعلقات وأكثر ذلك إذا جمع بين الفعلين كقوله هنا ما تقدم من ذنبك وما تأخر. والمراد بـ " ما تقدم ": تعميم المغفرة للذنب كقوله يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ، فلا يقتضي ذلك أنه فرط منه ذنب أو أنه سيقع منه ذنب وإنما المقصود أنه - تعالى - رفع قدره رفعة عدم المؤاخذة بذنب لو قدر صدوره منه وقد مضى شيء من بيان معنى الذنب عند قوله تعالى واستغفر لذنبك في سورة القتال. وإنما أسند فعل " ليغفر " إلى اسم الجلالة العلم وكان مقتضى الظاهر أن يسند إلى الضمير المستتر قصدا للتنويه بهذه المغفرة لأن الاسم الظاهر أنفذ في السمع وأجلب للتنبيه وذلك للاهتمام بالمسند وبمتعلقه لأن هذا الخبر أنف لم يكن [ ص: 148] للرسول - صلى الله عليه وسلم - علم به ولذلك لم يبرز الفاعل في ويتم نعمته عليك ويهديك لأن إنعام الله عليه معلوم وهدايته معلومة وإنما أخبر بازديادهما.
وكان من بركات الصلح أن أسلم اثنان من أعمدة قريش هما خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، وحسن إسلامهما، وكان ذلك مددا ربانيا قويا لدين الله تعالى وللصف الإسلامي، وكان لهما بعد ذلك من العطاء في سبيل الله تعالى ما لا يخفى على أحد. ومن معاني هذا الفتح أيضا تفرّغ الرسول صلى الله عليه وسلم للجبهة الداخلية التي طالما لغّمها اليهود بالدسائس وأنواع التآمر والخيانة ، كان آخرها تحالفهم مع الأحزاب – العدوّ الخارجي – رغم أنهم مواطنون بأتمّ معنى الكلمة بموجب وثيقة المدينة المنورة ، فقد أجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم من خيبر ، فدرأ بذلك خطرهم ووضع حدّا لعدوانيتهم المتواصلة ، وقد فتّ هذا الإجراء النبوي الحكيم في عضد المنافقين – حلفاء اليهود التقليديين – فخفت صوتهم في المدينة ونضاءل شأنهم. ومن معاني هذا الفتح في وقوله تعالى (إنا فتحنا لك فتحا مبينا) أن صار للمسلمين سرايا إلى مناطق بعيدة من الجزيرة كاليمن ونجد والبلقاء ، وأصبح الرسول صلى الله عليه وسلم يستقبل وفود العرب من مختلف أنحاء الجزيرة ، وهذا ما لم يكن متيسّرا قبل الحديبية.
فكان في تلك الآيات الكثير من التسرية للمسلمين والتخفيف عنهم، وإشعارهم بالقوة. وخاصة أن قريش هي التي شعرت بالانكسار بعد تخليهم عن صلفهم وجبروتهم. وقبولهم للتفاهم مع المسلمين، وهم الذين طالما كانوا ينظرون إليهم نظرة دونية. شاهد أيضًا: تفسير: فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم أهمية الفتح المبين (صلح الحديبية) تكمن أهمية الفتح المبين الوارد في تفسير "إنا فتحنا لك فتحًا مبينًا" في عدة نقاط، أهمها: أن صلح الحديبية جعل الدعوة الإسلامية تنطلق لمخاطبة العقول وملامسة القلوب. وعزز صف المؤمنين، وكان الصلح نصرًا؛ لأنه أزال الخوف والوهن من القلوب. كما أن الصلح ساهم في دخول الكثيرين إلى الإسلام. فقذ ذكرت بعض كتب التاريخ أن عدد الذين دخلوا الإسلام بعد إبرام الصلح. وخلال عام واحد كان أكثر من الذين دخلوه منذ البعثة النبوية، وبذلك كان فتحًا عزيزًا للنبي وللمسلمين. ولاشك أن دخول خالد بن الوليد وعمر بن العاص كان فتحًا مبينًا. تفسير ِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً - إسلام ويب - مركز الفتوى. وكان إسلامهما نتاجًا لصلح الحديبية، وقد صارا بعد ذلك من أعمدة الإسلام ومن أسباب قوته وعنفوانه. كما كان في صلح الحديبية تقتيد لعضد المنافقين في المدينة ومن حولها بعد أن تآمروا مع المشركين والحاقدين من أهل الكتاب ولاسيما اليهود لإضعاف الإسلام والقضاء عليه.
ووصف النصر بالعزيز مجاز عقلي وإنما العزيز هو النبيء - صلى الله عليه وسلم - المنصور ، أو أريد بالعزيز المعز كالسميع في قول عمرو بن معد يكرب: أمن ريحانة الداعي السميع أي المسمع ، وكالحكيم على أحد تأويلين. والعزة: المنعة. وإنما أظهر اسم الجلالة في قوله وينصرك الله ولم يكتف بالضمير اهتماما [ ص: 149] بهذا النصر وتشريعا له بإسناده إلى الاسم الظاهر لصراحة الظاهر ، والصراحة أدعى إلى السمع ، والكلام مع الإظهار أعلق بالذهن كما تقدم في ليغفر لك الله.
وفتح أُحد. فمن أطلق الفتح على مطلق النصر فقد تسامح ، وكيف وقد عطف النصر على الفتح في قوله: { نصر من الله وفتح قريب} في سورة الصف ( 13 (. ولعلّ الذي حداهم على عدّ النصر من معاني مادة الفتح أن فتح البلاد هو أعظم النصر لأن النصر يتحقق بالغلبة وبالغنيمة فإذا كان مع اقتحام أرض العدّو فذلك نصر عظيم لأنه لا يتم إلا مع انهزام العدّو أشنع هزيمة وعجزه عن الدفاع عن أرضه. وأطلق الفتح على الحكم قال تعالى: { ويقولون متى هذا الفتح إن كنتم صادقين} الآية سورة ألم السجدة ( 28 (. ولمراعاة هذا المعنى قال جمع من المفسّرين: المراد بالفتح هنا فتح مكة وأن محمله على الوعد بالفتح. والمعنى: سنفتح. وإنما جيء في الإخبار بلفظ الماضي لتحققه وتيقنه ، شُبه الزمن المستقبل بالزمن الماضي فاستعملت له الصيغة الموضوعة للمضي. أو نقول استعمل فتحنا} بمعنى: قدّرنا لك الفتح ، ويكون هذا الاستعمال من مصطلحات القرآن لأنه كلام من له التصرف في الأشياء لا يحجزه عن التصرف فيها مانع. إسلام ويب - التحرير والتنوير - سورة الفتح - قوله تعالى إنا فتحنا لك فتحا مبينا - الجزء رقم27. وقد جرى على عادة إخبار الله تعالى لأنه لا خلاف في إخباره ، وذلك أيضاً كناية عن علو شأن المخبر مثل { أتى أمر الله فلا تستعجلوه} [ النحل: 1]. وما يندرج في هذا التفسير أن يكون المراد بالفتح صلح الحديبية تشبيهاً له بفتح مكة لأنه توطئة له فعن جابر بن عبد الله: ما كنّا نعدّ فتح مكة إلا يوم الحديبية ، يريد أنهم أيقنوا بوقوع فتح مكة بهذا الوعد ، وعن البراء بن عازب «تعدون أنتم الفتح فتح مكة وقد كان فتح مكة فتحاً ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية» ، يريد أنكم تحملون الفتح في قوله: { إنا فتحنا لك فتحاً مبيناً} على فتح مكة ولكنه فتح بيعة الرضوان وإن كان فتح مكة هو الغالب عليه اسم الفتح.
وقال الزهري: لقد كان الحديبية أعظم الفتوح ، وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء إليها في ألف وأربعمائة ، فلما وقع الصلح مشى الناس بعضهم في بعض وعلموا وسمعوا عن الله ، فما أراد أحد الإسلام إلا تمكن منه ، فما مضت تلك السنتان إلا والمسلمون قد جاءوا إلى مكة في عشرة آلاف. وقال مجاهد أيضا والعوفي: هو فتح خيبر. والأول أكثر ، وخيبر إنما كانت وعدا وعدوه ، على ما يأتي بيانه في قوله تعالى: سيقول المخلفون إذا انطلقتم وقوله: وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه. وقال مجمع بن جارية - وكان أحد القراء الذين قرءوا القرآن -: شهدنا الحديبية مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما انصرفنا عنها إذا الناس يهزون الأباعر ، فقال بعض الناس لبعض: ما بال الناس ؟ قالوا: أوحى الله إلى النبي - صلى الله عليه وسلم -. قال: فخرجنا نوجف فوجدنا نبي الله - صلى الله عليه وسلم - عند كراع الغميم ، فلما اجتمع الناس قرأ النبي - صلى الله عليه وسلم - إنا فتحنا لك فتحا مبينا فقال عمر بن الخطاب: أوفتح هو يا رسول الله ؟ قال: [ نعم ، والذي نفسي بيده إنه لفتح]. فقسمت خيبر على أهل الحديبية ، لم يدخل أحد إلا من شهد الحديبية.