وحين تتعطَّل شاحنته سينزل ويركلُها بقدمه، وربما أطلق عليها رصاصةً من مسدسه الذي لم يعد يستخدمه في لُعبة الروليت. يصلُ هذا السائقُ المتهوِّر إلى منعطفٍ خطير، وهو يعبُّ قارورته التي يدخلها حتى نصفها في فمه.. يقطعُ طريقه كنغرٌ صغير.. يدهسه بالعجلات الخلفية ويخرج رأسه من النافذة ليبصق عليه ويشتُم أمَّه التي تقف على حافة الطريق وهي تصرخ.. ويستمرُ في شتم الكنغر إلى سابع جد. أبحث عن نهاية لمشوار هذا السائق، فأخترعُ طاحونةً تلوِّحُ له من بعيد.. وهو يفرك عينيه كما لو أنه استيقظ من نومه.. بسكوت الاصبع الذهبي القديم - بسكوت الاصبع الذهبي حبه تذوق الضيافة. تحت تلك الطاحونة كان يدفن السجائر التي كان يدخنها خفيةً عن أمِّه الراهبة، التي فشلت في جعله يحبّ الكنيسة ليصبح قِسَّاً كبيراً.. لكنه كان يرى أن الحانة تتَّسعُ له أكثر من الكنيسة التي تحاصره بتعليماتها المزعجة.
أكتب الآن وبداخلي رجلٌ ثمانينيٌّ يدخِّن سيجارة طويلة بأصابع مرتعشة وفم خاوٍ يتذكَّر بداية معرفته بأسنانه الَّلبنيَّة.. كغريق يحاول أن يتذكَّر كلَّ شيء، وهو يعلم أن الوقت المتبقي لديه ليس كافياً لأخذ نفس طويل، كي لا يموت وهو يلهث.. وليس كافياً لخلع ملابسه ليلقى الله متخفِّفاً من كلِّ شيء.
أصبحنا نبتهج بالتهاني بعيد الميلاد حتى وإن كان المقابل سنة كاملة ندفعها للحصول على تهنئة، فكيف نهنئ بعضنا بضياع سنة لنتقرب أكثر من الموت!! الحياة ضربٌ من العبث، ولذلك كنت أحفر اسمي على الصخور، وكأنه تعويذة سيحميها من غوائل الكسَّارات ومطارق البنَّائين.. لكن الديناميت كان أقوى من اسمي المحفور، لذلك آمنت أن لكلِّ شيء نهاية. سمحتُ للبعوض أن يقرصني كثيراً، ليتوزَّع دمي بين القبائل، ولأشعر بالتواجد في كل مكان حين يطير البعوض بقطرة من دمي.. لا أدري هل كان البعوض يتجشَّأ بعد تلك القطرة، أم أنه كان يبصقها لأن فصيلة دمي لا تناسبه!! ياتلحقووو يا ماتلحقووووش - عالم حواء. تمنَّيتُ كثيراً أن أصبح شخصية كرتونية لأتزوَّج بالليدي أوسكار، وأحمل سيفها لأرى إن كان سيلمع في يدي، ولألمس جاكيتها الأبيض، فقد كنتُ أحلم أن أمتلك مثله في يومٍ ما.. وفي الرابعة والثلاثين توقفت تماماً عن ارتداء أي جاكيت، فقد تصالحت مع الـ نص كُمّْ، وأصبحت نصف يدي محروقة من الشمس، لذلك أحبُّ أن أتعامل معها على أنها يد شخص آخر ما دام لونها مختلفاً عن بقية جسدي. فرحتُ بالدراجة الصغيرة أكثر من فرحتي بشراء سيارة هونداي بآلاف الدولارات.. لماذا كلَّما كبرنا تصغر الفرحة؟ كم من الحزن يلزمنا لنفقد فرحتنا بكل شيء!!
كلُّ أفراد أسرتي يشتغلون بالتجارة، وكلُّ أحاديثهم عن المال والربح والخسارة.. حاولوا أن يصنعوا مني تاجراً، وفتحوا لي محلاً تجارياً، فلم أقدر أن أسجن نفسي بين أربعة جدران مليئة بالبضائع وأكياس الدقيق والقمح، لأن القفص ليس مكاناً مناسباً لأجنحة العصافير وغنائها. كنت أخاف من الذهاب الى صلاة الجمعة، بسبب الرعب الذي كان يبثُّه خطيب المسجد، وهو يتحدث عن الأسياخ النارية ومنكر ونكير، وعن المطرقة الأسطورية التي تضرب الكذاب على رأسه في القبر، فينزل في الأرض سبعين متراً، ويصرخ صرخة لا تسمعها سوى الدَّواب حسب تعبيره.. ولأنني كنت كذاباً كان يرعبني هذا السيناريو المخيف، فأضع يدي على رأسي حين أنام خوفاً من تلك المطرقة. *** ها أنا أجرجر خلفي 42 عاماً من الهزائم والانكسارات، وبعضَ ذكرياتٍ من الطفولة لا تصلح أن تكون ذكريات.. الدُّمى حافلة بالذكريات أكثر مني. ليس هناك شيء يستحق الالتفات إليه في حياتي.. حياة اعتيادية، رغم أني أراها مرعبة بيني وبين نفسي، وما زلتُ مصراً على البقاء في مرحلة الطفولة.. ما زلت أحتفظ بدراجتي الصغيرة وجزء عمّ، وبعض الملابس التي لا أصدق أنها كانت تتسع لي.. ما زلت أحتفظ بروشتة كتبها لي الطبيب، وكم شعرت بالزهو حينها، لأن يد الطبيب كانت أول يد أراها تكتب اسمي.. أحسست أنني مهمٌّ جداً، وأن هناك من يقتطع من وقته 30 ثانية لكتابة اسمي.