وقال الخليل هم قوم يشبه دينهم دين النصارى ، إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب ، يزعمون أنهم على دين نوح ، عليه السلام. وحكى القرطبي عن مجاهد والحسن وابن أبي نجيح: أنهم قوم تركب دينهم بين اليهود والمجوس ، ولا تؤكل ذبائحهم ، قال ابن عباس: ولا تنكح نساؤهم. القرآن الكريم - تفسير القرطبي - تفسير سورة المائدة - الآية 69. قال القرطبي: والذي تحصل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم ، وأنها فاعلة ؛ ولهذا أفتى أبو سعيد الإصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم ، واختار فخر الدين الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب ؛ بمعنى أن الله جعلها قبلة للعبادة والدعاء ، أو بمعنى أن الله فوض تدبير أمر هذا العالم إليها ، قال: وهذا القول هو المنسوب إلى الكشرانيين الذين جاءهم إبراهيم الخليل ، عليه السلام ، رادا عليهم ومبطلا لقولهم. وأظهر الأقوال ، والله أعلم ، قول مجاهد ومتابعيه ، ووهب بن منبه: أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين ، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه ؛ ولهذا كان المشركون ينبزون من أسلم بالصابئي ، أي: أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الأرض إذ ذاك. وقال بعض العلماء: الصابئون الذين لم تبلغهم دعوة نبي ، والله أعلم.
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَىٰ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) قوله تعالى: إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون تقدم الكلام في هذا كله فلا معنى لإعادته. والذين هادوا معطوف ، وكذا والصابئون معطوف على المضمر في هادوا في قول الكسائي والأخفش. قال النحاس: سمعت الزجاج يقول: وقد ذكر له قول الأخفش والكسائي: هذا خطأ من جهتين; إحداهما أن المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حتى يؤكد. تفسير: (إن الذين آمنوا والذين هادوا والنصارى والصابئين... ). والجهة الأخرى أن المعطوف شريك المعطوف عليه فيصير المعنى أن الصابئين قد دخلوا في اليهودية وهذا محال ، وقال الفراء: إنما جاز الرفع في والصابئون لأن إن ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر; والذين هنا لا يتبين فيه الإعراب فجرى على جهة واحدة الأمران ، فجاز رفع الصابئين رجوعا إلى أصل الكلام.
ومن ذلك قوله تعالى: { أنّ الله بريء من المشركين ورسولُه} [ التوبة: 3] ، أي ورسوله كذلك ، فإنّ براءته منهم في حال كونه من ذي نسبهم وصهرهم أمر كالغريب ليظهر منه أنّ آصرة الدّين أعظم من جميع تلك الأواصر ، وكذلك هذا المعطوف هنا لمّا كان الصابون أبعد عن الهدى من اليهود والنّصارى في حال الجاهلية قبل مجيء الإسلام ، لأنّهم التزموا عبادة الكواكب ، وكانوا مع ذلك تحقّ لهم النّجاة إن آمنوا بالله واليوم الآخر وعملوا صالحاً ، كان الإتيان بلفظهم مرفوعاً تنبيهاً على ذلك. لكن كان الجري على الغالب يقتضي أن لا يؤتى بهذا المعطوف مرفوعاً إلاّ بعد أن تستوفي ( إنّ) خبرها ، إنَّما كان الغالب في كلام العرب أن يؤتى بالاسم المقصود به هذا الحكم مؤخّراً ، فأمّا تقديمه كما في هذه الآية فقد يتراءى للنّاصر أنّه ينافي المقصد الّذي لأجله خولف حكم إعرابه ، ولكن هذا أيضاً استعمال عزيز ، وهو أن يجمع بين مقتضيي حالين ، وهما للدّلالة على غرابة المُخبر عنه في هذا الحكم. سبب رفع الصابئين في قوله تعالى: {إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى}. والتّنبيه على تعجيل الإعلام بهذا الخبر فإنّ الصابئين يكادون ييأسون من هذا الحكم أو ييأس منهم من يسمع الحكم على المسلمين واليهود. فنبّه الكلّ على أنّ عفو الله عظيم لا يضيق عن شمولهم ، فهذا موجب التّقديم مع الرّفع ، ولو لم يقدّم ما حصل ذلك الاعتبار ، كما أنّه لو لم يرفع لصار معطوفاً على اسم ( إنّ) فلم يكن عطفه عطف جملة.
وَقَدْ بَيَّنَّا وَجْه الْإِعْرَاب فِيهِ فِيمَا مَضَى قَبْلُ بِمَا أَغْنَى عَنْ إِعَادَته. الْقَوْل فِي تَأْوِيل قَوْله تَعَالَى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَاَلَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاَللَّهِ وَالْيَوْم الْآخِر وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْف عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ} يَقُول تَعَالَى ذِكْره: إِنَّ الَّذِينَ صَدَّقُوا اللَّه وَرَسُوله, وَهُمْ أَهْل الْإِسْلَام, { وَاَلَّذِينَ هَادُوا} وَهُمْ الْيَهُود وَالصَّابِئُونَ. ' تفسير القرطبي تقدم الكلام في هذا كله فلا معنى لإعادته. { والذين هادوا} معطوف، وكذا { والصابئون} معطوف على المضمر في { هادوا} في قول الكسائي والأخفش. قال النحاس: سمعت الزجاج يقول: وقد ذكر له قول الأخفش والكسائي: هذا خطأ من جهتين؛ إحداهما أن المضمر المرفوع يقبح العطف عليه حتى يؤكد. والجهة الأخرى أن المعطوف شريك المعطوف عليه فيصير المعنى أن الصابئين قد دخلوا في اليهودية وهذا محال. وقال الفراء: إنما جاز الرفع في { والصابئون} لأن { إن} ضعيفة فلا تؤثر إلا في الاسم دون الخبر؛ و { الذين} هنا لا يتبين فيه الإعراب فجرى على جهة واحدة الأمران، فجاز رفع الصابئين رجوعا إلى أصل الكلام.
وقيل: غير ذلك. والوجه عندي أن المراد بالذين آمنوا أصحاب الوصف المعروف بالإيمان واشتهر به المسلمون ، ولا يكون إلا بالقلب واللسان لأن هذا الكلام وعد بجزاء الله تعالى ، فهو راجع إلى علم الله ، والله يعلم المؤمن الحق والمتظاهر بالإيمان نفاقا. فالذي أراه أن يجعل خبر ( إن) محذوفا. وحذف خبر إن وارد في الكلام الفصيح غير قليل ، كما ذكر سيبويه في كتابه. وقد دل على الخبر ما ذكر بعده من قوله فلهم أجرهم عند ربهم إلخ. ويكون قوله والذين هادوا عطف جملة على جملة ، فيجعل الذين هادوا مبتدأ ، ولذلك حق رفع ما عطف عليه ، وهو ( والصابون). وهذا أولى من جعل ( والصابون) مبدأ الجملة وتقدير خبر له ، أي والصابون كذلك ، كما ذهب إليه الأكثرون لأن ذلك يفضي إلى اختلاف المتعاطفات في الحكم وتشتيتها مع إمكان التقصي عن ذلك ، ويكون قوله من آمن بالله مبتدأ ثانيا ، وتكون ( من) موصولة ، والرابط للجملة بالتي قبلها محذوفا ، أي من آمن منهم ، وجملة فلهم أجرهم خبرا عن ( من) الموصولة ، واقترانها بالفاء لأن الموصول شبيه بالشرط. وذلك كثير في الكلام ، كقوله تعالى إن الذين فتنوا المؤمنين والمؤمنات ثم لم يتوبوا فلهم عذاب جهنم الآية ، ووجود الفاء فيه يعين كونه خبرا عن ( من) الموصولة وليس خبر إن على عكس قول ضابي بن الحارث: ومن يك أمسى بالمدينة رحله فإني وقبار بهـا لـغـريب فإن وجود لام الابتداء في قوله لغريب عين أنه خبر إن وتقدير خبر عن قبار ، فلا ينظر به قوله تعالى ( والصابون).