فإما أن يقال بفطرية معرفة وجود الله كما يقال بفطرية هذه المعارف الأولية، وإما أن يقال بنفي المعارف الفطرية كلها، وحينئذ لا يمكن تثبيت استدلال عقلي، للحاجة إلى أساس ضروري يرجع إليه! اعتراض على دليل الفطرة: من أشهر ما يعترض به على دليل الفطرة قول بعضهم: إذا كان وجود الله مستقرا في الفطر، فلِمَ يؤثر عن بعض الناس إنكارهم لوجوده؟ والجواب: أن الإقرار بوجود الله إنما هو في حق من سلمت فطرته من الانحراف، أما من تعرض لأعاصير الشبهات حتى اقتلعت الفطرة السليمة من قلبه، فإنه يحتاج إلى نصب الأدلة العقلية، وجمع البراهين العلمية. وفساد الفطرة وتغيرها ليس أمرا محالا ولا بعيدا، فإن الإنسان قد يكون في بيئة ضالة منحرفة، فتتسرب إلى قلبه مؤثرات كثيرة، تبعده عن سواء السبيل. أدلة إثبات وجود الله - موقع مقالات إسلام ويب. قال ابن تيمية: ''إن الإقرار والاعتراف بالخالق فطري ضروري في نفوس الناس، وإن كان بعض الناس قد يحصل له ما يفسد فطرته حتى يحتاج إلى نظر تحصل له به المعرفة'' (4). وهنالك وجه آخر في الجواب، وهو: أن المخالفين للفطرة، القائلين بإنكار الخالق، قلة قليلة في عموم البشر عبر التاريخ، كما سبق بيانه. ثم إن كثيرا منهم ينكر وجود الله في الظاهر، مع إقراره بوجوده في الباطن؛ كما ذكر الله تعالى عن فرعون وقومه في تعاملهم مع آيات الله سبحانه: { وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوا} (النمل:14).
قال تعالى: {سَنُرِيهِمْ آياتنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ *} [فصلت:53]. فقوله: {سَنُرِيهِمْ آياتنَا فِي الآفَاقِ} أي: علامات وحدانيتنا وقدرتنا، وقوله (في الآفاق) يعني أقطار السماوات والأرض: من الشمس، والقمر، والنجوم، والليل، والنهار، والرياح، والأمطار، والرعد، والبرق، والصواعق، والنبات، وغير ذلك مما فيها من عجائب خلق الله.
تفسير سورة الغاشية وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ ( 1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ ( 2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ ( 3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً ( 4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ ( 5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ ( 6) لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ ( 7) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ ( 8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ ( 9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ ( 10) لا تَسْمَعُ فِيهَا لاغِيَةً ( 11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ ( 12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ ( 13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ ( 14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ ( 15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ ( 16). يذكر تعالى أحوال يوم القيامة وما فيها من الأهوال الطامة، وأنها تغشى الخلائق بشدائدها، فيجازون بأعمالهم، ويتميزون [ إلى] فريقين: فريقًا في الجنة، وفريقًا في السعير. تفسير السعدي - سورة الحاقة. فأخبر عن وصف كلا الفريقين، فقال في [ وصف] أهل النار: ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ) أي: يوم القيامة ( خَاشِعَة) من الذل، والفضيحة والخزي. ( عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) أي: تاعبة في العذاب، تجر على وجوهها، وتغشى وجوههم النار. ويحتمل أن المراد [ بقوله:] ( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ) في الدنيا لكونهم في الدنيا أهل عبادات وعمل، ولكنه لما عدم شرطه وهو الإيمان، صار يوم القيامة هباء منثورا، وهذا الاحتمال وإن كان صحيحًا من حيث المعنى، فلا يدل عليه سياق الكلام، بل الصواب المقطوع به هو الاحتمال الأول، لأنه قيده بالظرف، وهو يوم القيامة، ولأن المقصود هنا بيان وصف أهل النار عمومًا، وذلك الاحتمال جزء قليل من أهل النار بالنسبة إلى أهلها ؛ ولأن الكلام في بيان حال الناس عند غشيان الغاشية، فليس فيه تعرض لأحوالهم في الدنيا.
ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ↓ ثم أدخلوه الجحيم ليقاسي حرها, ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ ↓ ثم في سلسلة من حديد طولها سبعون ذراعا فادخلوه إِنَّهُ كَانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ ↓ إنه كان لا يصدق بوحدانية الله وعظمته, ولا يعمل بهديه, وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ ↓ ولا يحث الناس في الدنيا على إطعام أهل الحاجة من المساكين وغيرهم. فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ ↓ فليس لهذا الكافر يوم القيامة قريب يدفع عنه العذاب, وَلا طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ ↓ وليس له طعام إلا من صديد أهل النار, لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخَاطِؤُونَ ↓ لا يأكله إلا المذنبون المصرون على الكفر بالله. فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ ↓ فلا أقسم بما تبصرون من المرئيات, وَمَا لا تُبْصِرُونَ ↓ وما لا تبصرون مما غاب عنكم, إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ↓ إن القرآن لكلام الله, يتلوه رسول عظيم الشرف والفضل, وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلا مَا تُؤْمِنُونَ ↓ وليس بقول شاعر كما تزعمون, قليلا ما تؤمنون, وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ↓ وليس بسجع كسجع الكان, قليلا ما يكون منكم تذكر وتأمل الفرق بينهما, تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ↓ ولكنه كلام رب العالمين الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم.
وقوله: ( تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً) أي: شديدًا حرها، تحيط بهم من كل مكان، ( تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ) أي: حارة شديدة الحرارة وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ فهذا شرابهم. وأما طعامهم فـ ( لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلا مِنْ ضَرِيعٍ * لا يُسْمِنُ وَلا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ) وذلك أن المقصود من الطعام أحد أمرين: إما أن يسد جوع صاحبه ويزيل عنه ألمه، وإما أن يسمن بدنه من الهزال، وهذا الطعام ليس فيه شيء من هذين الأمرين، بل هو طعام في غاية المرارة والنتن والخسة نسأل الله العافية. وأما أهل الخير، فوجوههم يوم القيامة ( نَاعِمَةٌ) أي: قد جرت عليهم نضرة النعيم، فنضرت أبدانهم، واستنارت وجوههم، وسروا غاية السرور. ( لِسَعْيِهَا) الذي قدمته في الدنيا من الأعمال الصالحة، والإحسان إلى عباد الله، ( رَاضِيَةٌ) إذ وجدت ثوابه مدخرًا مضاعفًا، فحمدت عقباه، وحصل لها كل ما تتمناه، وذلك أنها ( فِي جَنَّةٍ) جامعة لأنواع النعيم كلها، ( عَالِيَةٍ) في محلها ومنازلها، فمحلها في أعلى عليين، ومنازلها مساكن عالية، لها غرف ومن فوق الغرف غرف مبنية يشرفون منها على ما أعد الله لهم من الكرامة.