ولما وردنا ماء مدين نستقي على ظمأ منا الى منهل النجوى نزلنا على قوم كرام بيوتهمُ مقدسة لا هند فيها ولا علوى ولاحت لنا نار على البعد أضرمت وجدنا عليها من نحب ومن نهوى سقانا فحيّانا فأحيا نفوسنا وأسكرنا من خمر إجلاله عفوا مدام عليها العهد الا يسيغها سوى مخلص في الحب خال من الدعوى شربنا فهمنا فاستهامت نفوسنا وصرنا نجر الذيل من سكرنا زهوا سكرنا فبحنا فاستبيحت دماؤنا أيقتل بواح بسر الذي يهوى وما السر في الأحرار الا وديعة ولكن إذا رق المدام فمن يقوى
هذا الشاب الطاهر الذي لا يغش أحداً أمضى عدّة أيّام في الطريق، الطريق التي لم يتعود المسير فيها من قبل أبداً، ولم يكن له بها معرفة، وكما يقول بعضهم: اضطر موسى إلى أن يمشي في هذا الطريق حافياً، وقيل: إنّه قطع الطريق فيثمانية أيّام، حتى لقي ما لقي من النصب والتعب، وورمت قدماه من كثرة المشي. وكان يقتات من نبات الأرض وأوراق الشجر دفعاً لجوعه، وليس له أمام مشاكل الطريق وأتعابه إلاّ قلبه المطمئن بلطف الله الذي خلّصه من مخالب الفراعنة. وبدأت معالم "مدين" تلوح له من بعيد شيئاً فشيئاً، وأخذ قلبه يهدأ ويأنس لاقترابه من المدينة، ولما اقترب ثمّ عرف بسرعة أنّهم أصحاب أغنام وأنعام يجتمعون حول الآبار ليسقوا أنعامهم وأغنامهم. يقول القرآن في هذا الصدد: (فلما ورد ماء مدين وجد عليه أمّة من الناس يسقون ووجد من دونهما امرأتين تذودان) ( 1). فحركه هذا المشهد... حفنة من الشبان الغلاظ يملأون الماء ويسقون الأغنام، ولا يفسحون المجال لأحد حتى يفرغوا من أمرهم.. بينما هناك امرأتان تجلسان في زاوية بعيدة عنهم، وعليهم آثار العفّة والشرف، جاء إليهما موسى(ع)ليسألهما عن سبب جلوسهما هناك و (قال ما خطبكما) ( 2). 31 فائدة من قصة موسى عليه السلام والفتاتين. وَلِمَ لا تتقدمان وتسقيان الأغنام؟!
وقد ذكر السعدي تفسير هذه الآية بالنحو التالي: أن موسى عليه السلام عندما وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُون مواشيهم، وكانوا أهل ماشية كثيرة { وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ} أي: دون تلك الأمة { امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ} غنمهما عن حياض الناس، لعجزهما عن مزاحمة الرجال وبخلهم، وعدم مروءتهم عن السقي لهما. أما أهم فوائد هذه الآية: أولا: يجب على الفتاة والمرأة المسلمة أن تتحلى بالحياء في لباسها ومشيها وكلامها وجميع تصرفاتها، وأجمل ما في المرأة هو خلق الحياء. ولما ورد ماء مدين وجد عليه. ثانيا: أن تكون هناك مبادرة وإيجابية في المواقف التي تتطلب ذلك مساعدة المحتاج وإغاثة الملهوف. ثالثا: أن الحياء من الفتاء كان سبباً في زواجها بنبي من أنبياء الله تعالى! فالحياء كله خير ولا يأتي إلا بخير. رابعا: عدم انتظار الشكر من فعل المعروف، لأن المسلم المخلص التقي لا ينتظر الشكر من الناس مقابل معروفه، لأنه يبتغي الأجر من الله تعالى. خامسا: أن يكون هناك رحمة بالعمال" وعدم تكليفهم ما لا يقدرون، والله أعلم.
و { تذودان} تطرُدان. وحقيقة الذود طرد الأنعام عن الماء ولذلك سموا القطيع من الإبل الذود فلا يقال: ذدت الناس ، إلا مجازاً مرسلاً ، ومنه قوله في الحديث " فَلَيذادن أقوام عن حوضي " الحديث. والمعنى في الآية: تمنعان إبلاً عن الماء. وفي التوراة: أن شعيباً كان صاحب غنم وأن موسى رعى غنمه. فيكون إطلاق { تذودان} هنا مجازاً مرسلاً ، أو تكون حقيقة الذود طرد الأنعام كلها عن حوض الماء. وكلام أيمة اللغة غير صريح في تبيين حقيقة هذا. ولما ورد ماء مدين. وفي سفر الخروج: أنها كانت لهما غنم ، والذود لا يكون إلا للماشية. والمقصود من حضور الماء بالأنعام سقيها. فلما رأى موسى المرأتين تمنعان أنعامهما من الشرب سألهما: ما خطبكما؟ وهو سؤال عن قصتهما وشأنهما إذ حضرا الماء ولم يقتحما عليه لسقي غنمهما. وجملة { قال ما خطبكما} بدل اشتمال من جملة { ووجد من دونهم امرأتين تذودان}. والخطب: الشأن والحدث المهم ، وتقدم عند قوله تعالى { قال ما خطبكن إذ راودتن يوسف عن نفسه} [ يوسف: 51] ، فأجابتا بأنهما كرهتا أن تسقيا في حين اكتظاظ المكان بالرعاء وأنهما تستمران على عدم السقي كما اقتضاه التعبير بالمضارع إلى أن ينصرف الرعاء. و { الرعاء}: جمع راع. والإصدار: الإرجاع عن السقي ، أي حتى يسقي الرعاء ويصدروا مواشيهم ، فالإصدار جعل الغير صادراً ، أي حتى يذهب رعاء الإبل بأنعامهم فلا يبقى الزحام.
* * * وأمّا قَوْلُهُ: ﴿فَقالَ رَبِّ إنِّي لِما أنْزَلْتَ إلَيَّ مِن خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ فالمَعْنى: إنِّي لِأيِّ شَيْءٍ أنْزَلْتَ إلَيَّ مِن خَيْرٍ قَلِيلٍ أوْ كَثِيرٍ غَثٍّ أوْ سَمِينٍ لَفَقِيرٌ، وإنَّما عَدّى فَقِيرًا بِاللّامِ؛ لِأنَّهُ ضُمِّنَ مَعْنى سائِلٍ وطالِبٍ. واعْلَمْ أنَّ هَذا الكَلامَ يَدُلُّ عَلى الحاجَةِ، إمّا إلى الطَّعامِ أوْ إلى غَيْرِهِ، إلّا أنَّ المُفَسِّرِينَ حَمَلُوهُ عَلى الطَّعامِ. قالَ ابْنُ عَبّاسٍ: يُرِيدُ طَعامًا يَأْكُلُهُ، وقالَ الضَّحّاكُ: مَكَثَ سَبْعَةَ أيّامٍ لَمْ يَذُقْ فِيها طَعامًا إلّا بَقْلَ الأرْضِ.