ويؤكد على هذا المعنى الأخير هذا الموقف، فقد أتى مجاشع بن مسعود t بأخيه مجالد بن مسعود، ليعلن الإسلام بين يديه r بعد الفتح؛ لأن مجاشع من الذين أسلموا قبل الفتح، ومجالد من الذين أسلموا بعد الفتح، فجاء ليبايع بعد الفتح وقال: جئتك بأخي لتبايعه على الهجرة. فقال r: "ذَهَبَ أَهْلُ الْهِجْرَةِ بِمَا فِيهَا". فقال مجاشع: فعلى أي شيءٍ تبايعه يا رسول الله؟ فقال r: "أُبَايِعُهُ عَلَى الإِسْلاَمِ وَالإِيمَانِ وَالْجِهَادِ" [4]. فالمهاجرون الأولون لهم مكانة عظيمة في الإسلام، كما قال الله U: {لاَ يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلاًّ وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} [الحديد: 1]. د. باب الحرم، مكة المكرمة – أحدث أسعار 2022. راغب السرجاني [1] رواه أحمد في مسنده (16424) ترقيم النسخة الميمنية، وصححه شعيب الأرناءوط. [2] رواه مسلم (1780)، وأحمد (10961). [3] البخاري: كتاب الإيمان، باب علامة الإيمان حب الأنصار (17). مسلم: كتاب الإيمان، باب الدليل على أن حب الأنصار وعليٍّ y من الإيمان وعلاماته وبغضهم من علامات النفاق (74).
وعتاب بن أسيد هذا الشاب لم يتلوث كثيرًا بعقائد المشركين، وليس هناك تاريخ عداء بينه وبين المسلمين، فسيسهُل قيادُه. وبالفعل فقد حسن إسلام عتاب بن أسيد، وكان كثير الصلاة والصيام والصدقة، وكان من المقربين من الرسول r، واستطاع بحكمته أن يحفظ الأمن والأمان داخل مكة، فلم نسمع عن قلاقل حدثت في حياته في فترة حكمه لمكة المكرمة. ومن حكمة الرسول r أنه ترك مع عتاب بن أسيد معاذَ بن جبل الأنصاري؛ ليعلِّم الناس أمور دينهم. مواقف باب مكة يلتقي بأولياء الأمور. وكان عتاب بن أسيد حديث عهد بالإسلام، ومعلوماته عن الإسلام قليلة، فترك الرسول r معهم بحرًا من بحور العلم، إمام العلماء يوم القيامة، وأعلم أمته بالحلال والحرام؛ ليرجعون إليه فيما يختلفون فيه. ولا ننسى أن لهم تاريخًا طويلاً مع الرسول r، وهناك شبهات كثيرة قالوها قبل ذلك، وخير من يردُّ عليهم في ذلك الوقت معاذ بن جبل t، وبذلك استقر الوضع في داخل مكة المكرمة، ودخل الناس جميعًا في الإسلام بفضل الله U. موقف الأنصار يوم الفتح رأى الأنصار y الأحداث التي تجري في داخل مكة المكرمة، ودخول أهل مكة في دين الله، وهؤلاء جميعًا هم أهل وعشيرة ورحم الرسول r، ولا شك أنهم يشاهدون فرحة وسعادة الرسول r بهذا الإسلام، ولا شك أنهم أيضًا يشاهدون استقرار الأوضاع داخل مكة المكرمة؛ فقد أسلم عكرمة بن أبي جهل ، وأسلم سهيل بن عمرو، وأسلم قادة مكة بصفة عامة، فبدأ الوضع يستقر في داخل مكة المكرمة، ووقف الرسول r فوق الصفا يدعو الله U والأنصار يقفون تحته، ويفكرون في وضعهم بعد هذا الفتح، فقال بعض الأنصار لبعضهم: أما الرجل -ويقصدون الرسول r- فأدركته رغبة في قريته، ورأفة بعشيرته.
وعلى هذا يجب أن يسير الدعاة إلى اللَّه فوق كل أرض، وتحت كل سماء، وفي كل وقت، يجب أن تكون الدعوة على حسب المنهج الذي سار عليه رسول اللَّه سواء كان ذلك قبل الهجرة أو بعدها، فطريق الدعوة الصحيح هو هديه والتزام أخلاقه وحكمه وتصرفاته على حسب ما أرادها ( [7]). (ب) صموده وثباته أمام ممثلي قريش واضطهادهما: رأت قريش أن تجرب أسلوباً آخر تجمع فيه بين الترغيب والترهيب، فلترسل إلى محمد تعرض عليه من الدنيا ما يشاء، ولترسل إلى عمه الذي يحميه تحذره مغبة هذا التأييد والنصر لمحمد ، وتطلب منه أن يكف عنها محمداً ودينه ( [8]). ( [1]) سورة الشعراء، الآيات: 214-216. مواقف للرسول بعد فتح مكة| قصة الإسلام. ( [2]) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، باب ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾ ، 8/501، (رقم 4770)، ومسلم بنحوه في كتاب الإيمان، باب قوله: ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾ ، 1/194، (رقم 208)، والآيتان من سورة المسد: 1-2. ( [3]) البخاري مع الفتح، كتاب التفسير، سورة الشعراء، باب ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾ 5/382، 8/501، ومسلم، كتاب الإيمان، باب: ﴿ وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ ﴾ 1/192 (رقم 206). ( [4]) انظر: الرحيق المختوم، ص78، وفقه السيرة لمحمد الغزالي، ص101، والسيرة النبوية دروس وعبر لمصطفى السباعي، ص47.
ملخص المقال بر الرسول بمن أذاه من قريش، مقال د. راغب السرجاني يتناول بر الرسول وعفوه عن قريش وخاصة في فتح مكة، فقال لهم: اذهبوا فأنتم الطلقاء إننا كثيرًا ما نقرأ قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «صِلْ مَن قَطَعَكَ، وَأَعْطِ مَنْ حَرَمَكَ، وَاعْفُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ» [1] ، فنعتقد أن الأمر مقصور على المسلمين، ونحن معذورون في ذلك؛ لأن وصل القاطع، وإعطاء الذي حَرم، والعفو عمن ظلم - أمرٌ صعب، حتى لو كان الفاعل مسلمًا، فما البال لو كان غير مسلم؟! ومع ذلك، فالأمثلة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذه الشاكلة كثيرة جدًّا، وكلها آيات في سُمُوِّ الأخلاق، وقمة الأدب. بلدية البلد بجدة تزيل مخالفات موقف باب مكة. ولقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك مع الأفراد والجماعات، وفعله مع القبائل والمدن.. فيروي جابر بن عبد الله –رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتل محارب خصفة [2] بنخل، فرأوا من المسلمين غِرَّةً، فجاء رجل منهم يقال له: غورث بن الحارث حتى قام على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف، فقال: من يمنعك مني؟ قال: «اللهُ». فسقط السيف من يده، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «مَنْ يَمْنَعُكَ مِنِّي ؟! » قال: كن كخير آخذ.
في هذا الجو من الألم والحزن والضيق، يمسح صلى الله عليه وسلم الدم عن وجهه ويقول: «رَبِّ اغْفِرْ لِقَوْمِي فَإِنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ» [5]!! مواقف باب مكة المكرمة. إنه يعاملهم معاملة الأب الحنون الذي يرى ابنه عاقًّا ومنحرفًا ومؤذيًا له وللمجتمع، فيرفع يده للسماء ليدعو له، لا ليدعو عليه. وتستمر تحديات قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وتتعدد الجولات، وتحرص قريش في يوم الأحزاب على استئصال خضراء المسلمين جميعًا، ولكنها تفشل بعد أن جمعت عشرة آلاف مقاتل من الجزيرة العربية، وتمنع الرسولَ صلى الله عليه وسلم من دخول مكة للعمرة في العام السادس. ثم يكون صلح الحديبية، وتنقض قريش العهد، ويذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم بجيشه العملاق، ويدخل مكة فاتحًا بعد أكثر من عشرين سنة من الاضطهاد والتعذيب له ولأصحابه، ويجتمع القوم الذين لم يُدركوا قيمة (العظيم) الذي كان يعيش بينهم.. ويتوقع الجميع يومًا داميًا تُعوَّض فيه آلام السنوات السابقة، ويقف المتكبرون من أهل قريش في ذِلَّةٍ وصَغار أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرون حُكمًا رادعًا بقتلٍ، أو نفي، أو استرقاق.. ويتساءل الرسول العظيم صلى الله عليه وسلم في رقَّةٍ وتلطفٍ وتواضعٍ: «يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، مَا تُرَوْنَ أَنِّي فَاعِلٌ فِيكُمْ ؟ » قالوا: خيرًا، أخٌ كريم، وابنُ أخٍ كريم.
20 فبراير 2022 – 19 رجب 1443 02:11 PM ثاني أقدس الأماكن للمسلمين خصَّ الله -عزّ وجلّ- المدينة المنوّرة بخصائص عديدة وفضائل جعلتها تحتل مكانة جليلة بين المسلمين، كما أن لها قدسيتها وخصوصيتها في قلوبهم، فهي دار الهجرة ومهبط الوحي وبيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وفيها مسجده الشريف، وهي دار المجتمع الإسلامي الأول ومنطلق الجيوش الإسلامية الفاتحة، وهي سيدة البلدان وعاصمة الإسلام الأولى، تجتمع فيها معالم تاريخية ومعانٍ إيمانية جمة، وتملأ أمجادها وفضائلها الأسماع والأبصار.
وبهذه المواقف الحكيمة، والتربية الصالحة المتينة استطاع محمد أن يؤدي الأمانة، ويبلغ الرسالة، وينصح الأمة، ويجاهد في اللَّه حق جهاده، ويرسم لنا طريقاً نسير عليه في دعوتنا وعملنا وسلوكنا، فهو قدوتنا وإمامنا الذي نسير على هديه، ونستنير بحِكَمِهِ. فقد بدأ الدعوة بعناصر اختارها ورباها، فلبت الدعوة، وآمنت به، وكانت دعوته عامة للناس، وفي أثناء هذه الدعوة يركز على من يجد عندهم الإمكانات أو يتوقع منهم ذلك، وقد تكوَّن من هذه العناصر نواة القاعدة الصلبة التي ثبتت عليها أركان الدعوة ( [6]).