النخبة الحاكمة والمسيطرة في المجالات كافة، هي من تصنع المجتمع كما يصنع الخباز من العجينة كل أنواع الخبز والمعجنات. قارنوا أيضا بين تركيا قبل أردوغان وتركيا بعد أردوغان؛ لقد انتقل البلد خلال فترة وجيزة من حكم حزب العدالة والتنمية من مصاف البلاد المتخلفة إلى مصاف الدول المتقدمة، وصارت تركيا رقم 17 على مؤشر الاقتصاديات العالمية القوية، بينما كانت إسطنبول أكبر مدينة تركية قبل ذلك تفوح منها الروائح الكريهة، لأنها لم تكن تمتلك وقتها شبكة صرف صحي. وحتى الإنسان التركي نفسه لم يكن محط احترام وإعجاب العالم قبل قدوم أردوغان، لكن تركيا أصبحت رقما صعبا خلال فترة وجيزة، وصار التركي يحظى باحترام كبير على الساحة الدولية، وصارت تركيا منارة في التقدم البشري والحضاري والعلمي، لأن الحزب الحاكم والقائد أرادا انتشالها وانتشال شعبها من قاع التخلف إلى سنام الحضارة، ولولا حزب العدالة والتنمية ولولا أردوغان لما صارت تركيا على ما هي عليه الآن. ومن ثم نيجب أن نقلب القول الشهير: «كما تكونوا يولى عليكم» رأسا على عقب ليصبح: كما يولى عليكم تكونون. هل نلوم السوريين الذين يصفقون للنظام بعد أن قتل وشرد الملايين ودمر سوريا؟ أم نلوم النظام نفسه الذي أنتج هذه الثلة التشبيحية المجردة من كل القيم والأخلاق والنواميس الإنسانية، وحسب المثل الشعري: «إذا كان رب البيت للدف ضاربا*** فشيمة أهل البيت كلهم الرقص».
كما تكونوا يولى عليكم الحديث النبوي القائل كما تكونوا يولى عليكم، يستخدم كلسان الحال في حياتنا الفلسطينية. فمهما تذمرنا من آداء السلطة من ضعف وفساد وقلة حيلة، في كل مرة ننظر حولنا ونفهم ان السلطة هي انعكاس لحالنا. فالسلطة بأفرادها ليست الا جزء من هذا الشعب. الاحداث الأخيرة المتعلقة بفيروس الكورونا منذ اعلان حالة الطوارئ، اثبتت بأن الحكومة ليست بالسوء الذي توقعناه. على العكس، اخذت مواقف استباقية وتعاملت مع الشعب باحترام وشفافية تدريجية مع تقدير الوضع. ولكن، لا يمكن القول ان العتب قد رفع عن الحكومة بعد ثلاثة أسابيع من اعلان الطوارئ والتعامل مع الناس باحتواء كبير. اعلان حظر التجول جاء كذلك تدريجيا ولا يمكن وصف تعامل الحكومة الا بالرحيم. ولكن، ما شاهدناه بالأمس بين بيت لحم وجنين يؤكد ان مأساوية الوضع متداخلة. فلا الحكومة تختلف عن الشعب في تعاملها مع جدية الامر ولا الشعب كذلك. في بيت لحم، تجمع العشرات من أصحاب السلطة بين محافظ ورجال دين وغيرهم لتقديم اسناد من الرئيس لرجال الدين الموجودين بكنسية المهد من اجل الصلاة والدعاء. في فترة كهذه، تقول التعليمات عن مترين من المسافة بين الشخص والأخر، وفي مدينة بيت لحم المفروض عليها الحجر الصحي وحظر التجول باعتبارها المدينة المنكوبة بالفيروس.
كما تكونوا يولى عليكم - YouTube
كيف انتشرت مقولة كهذه رغم معارضتها لأحاديث صحيحة (حديث كلمة حق عند سلطان جائر وحديث تغيير المنكر على سبيل المثال لا الحصر) بل وآيات قرآنية كثيرة تحث على التغيير؟ كيف صارت مقولة كهذه جزءا من منظومة التفكير وهي تنسب له عليه الصلاة والسلام الذي كانت كل حياته نموذجا يدحض هذا المفهوم؟ إذن علاقة الجهور بالقائد ملتبسة ومعقدة وتشبه العلاقة بين البيضة والدجاجة في السؤال الشهير.. واختصار ذلك بمقولة خاطئة ومنحها القداسة عبر نسبتها اليه عليه الصلاة والسلام أمر خاطئ علميا وأخلاقيا وقبل كل ذلك شرعيا.. فضلا عن اعتبار ذلك كله "سنة من السنن الإلهية"..! من ناحية أخرى، التاريخ يكذب هذه السنة المزعومة، فالناس الذين تولى عليهم عمر بن عبد العزيز – كمثال لا خلاف عليه لولي الأمر الصالح- هم ذاتهم الذين تولى عليهم من سبقه ومن خلفه.. لم يتغيروا.. ولا يمكن الزعم أن الناس تغيروا بمجرد إعلان البيعة لخليفة جديد.. دعونا لا ننسى أن حكامنا لم يأتوا من كوكب آخر، بل نشؤوا ضمن نفس المنظومة الثقافية التي نشأت فيها شعوبهم، لقد رضعوا هذه المفاهيم كما رضعتها الجماهير: فإذا ما صاروا قادة وزعماء( بهذه الطريقة أوتلك! ) تصوروا أن شعوبهم تستحق ما تنال.. ولذلك فاستئصال هذه المفاهيم ونزع الشرعية المزورة عنها هو أمر لا بد منه من أجل مستقبل خال من الاستبداد.. ( أو على الأقل أقل استبدادا..! )
مقولة تحمل معاني فاسدة بعد تأكيده على عدم صحة تلك المقولة كحديث نبوي، رأى الدكتور أسامة نمر أن معناها يكون صحيحا في حالة واحدة، حينما يُسند الأمر إلى الشعب كي يختار من يحكمه، فإن كان هو صاحب القرار في ذلك، ومارس ذلك الحق بحريته الكاملة، فإن الحاكم حينذاك يكون إفرازا طبيعيا لمجتمعه الذي اختاره وانتخبه بإرادته وحريته. وأضاف نمر لـ " عربي 21 ": "أما في الحالة التي يُفرض فيها الحاكم على الناس، فكيف يصح القول بأنه إفراز طبيعي لمجتمعه وهو مفروض عليهم بالغلبة والقوة؟"، مستبعدا تفسير ذلك باعتباره تسليطا من الله عليهم، لأننا وجدنا حالات في التاريخ الإسلامي، تولى فيها الإمارة أمراء ظلمة وكان الغالب على الناس الصلاح والاستقامة. وجوابا عن استدلال بعضهم بالآية {وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} كشاهد على صحة تلك المقولة، أوضح أستاذ الحديث وعلومه الدكتور أسامة نمر أن الآية تتحدث عن الولاية بمعناها العام (المحبة والنصرة) كما هو اختيار الإمام الطبري "فالمؤمن ولي المؤمن أينما كان وحيث كان، والكافر ولي الكافر أينما كان، وحيثما كان.. وكذلك نجعل بعض الظالمين لبعض أولياء".
وهنا يجب أن ننتبه إلى السياق التاريخي يتحدث عن تجربة المسيحية في أوروبا. مجملُ القول: إن المقالة -الكتاب- تنطلقُ من مشكلة سياسية إلى تقرير قضية حقوقية يتمُ تشخيصها باعتبارها أزمة وعي بفكرة "الحقوق" ذاتها. والآن.. وبناءً على ما مضى تأكيدُه من ضرورة استحضار فكرة "السياقات" في قراءة التجارب الحضارية، فإن "نقد النقد" ممارسة فكرية عالية المستوى. ولأننا نعرفُ اللهَ تعالى عبرَ وحيه المصون وهو القرآن الكريم، وهو ينصُ صراحةً على وحدة المنبت البشري، وأن الإنسان مخلوقٌ مكرمٌ، وأن معيار التفضيل الإلهي هو "التقوى" لا غير، هذا في الآخرة أما في الدنيا؛ فإن الناس سواسية كأسنان المشط، هذا هو ما يُفهم من الخطاب القرآني.