اجتماع بجوار (كشك الموسيقى): شاء صديقي الأستاذ وديع فلسطين أن يفرع الحديث في موضوع اختيار الجامعة أساتذتها، فأرسل الكلام في شعب هذا الموضوع، دائراً حول المحور الذي يظهر من قوله: (إن الحياة كثيراً ما تكون أقدر على إعداد المرء ثقافياً وعلمياً من الجامعة. وقد أعترف جورج برناردشو بأنه لم يدخل جامعة ولا معهداً عالياً، وأنه كان خامل الذكر في دراسته الابتدائية). وأذكر - لهذا - ما رأيته بعدد من جريدة (المؤيد) يقع تاريخه قبيل سنة 1908، فقد كنت أتصفح أعدادها منذ سنوات بدار الكتب المصرية، فلمحت هذا التوقيع (عباس محمود العقاد) تحت أسطر تتضمن دعوة الراسبين في الشهادة الابتدائية إلى الاجتماع بجوار (كشك الموسيقى) بحديقة الأزبكية.. ولعل التلميذ عباس محمود العقاد كان يريد بهذا الاجتماع أن يتزعم زملاءه للمطالبة بعقد امتحان (ملحق) لهم، وقد يكون الأمر غير ذلك. ولكن المعروف في تاريخ الأستاذ الكبير أنه لم يستمر في دراسة مدرسية بعد التعليم الابتدائي، لحسن حظه! فقد كسب بذلك وقتاً طويلاً من عمره كان يضيع في تعلم ما لا يرد ولا يفيد، فأستغل وقته ووجه همه إلى ما أراد. وهو يعبر عن ذلك في مقال بالعدد الأخير من مجلة الهلال بقوله: (ومما أحمد الله عليه أن أساتذتي جميعاً قد اخترتهم بنفسي، ولم يفرضهم علي أحد يملك سلطة التعيين والفصل دون غيره، لأنهم كانوا جميعاً مؤلفين مشهوداً لهم برسوخ القدم في صناعة التأليف أقرأ منهم من أشاء وأعرض عمن أشاء، وأطلبهم حين أريد وحيث أريد).
مجلة الرسالة/العدد 879/في الصداقة والصديق للدكتور أحمد فؤاد الاهواني وقع الخضر في كشكوله من (الرسالة) يقول أنه لاحظ أنني كلما أخرجت كتاباً كتب عنه الأستاذ عبد الغني حسن، وأن العكس صحيح، يريد أنه كلما أخرج كتاباً أو ديواناً كتبت عنه. والتوقيع على إيجازه وإن كان صحيحاً يحمل معنى التعجب، أو هو خبر ينطوي على استفهام، وإشارة تحتاج إلى تفسير وبيان. وبيان هذا التبادل أنه دليل على الصداقة أو هواية الأخوة. ولكاتب التوقيع أن يعجب في زمن أصبحت فيه الصداقة أندر من الكبريت الأحمر، فإذا رأى أحد شخصين قد ائتلف قلباهما على محبة، وقامت العلاقة بينهما على المودة، لفت ذلك نظره لغرابته وشذوذه، وبعده عن المألوف، وانفراده من المتعارف الشائع المعروف. ولقد حكى الحكماء أن المستحيلات ثلاثة: الغول والعنقاء والخل الوفي. فإذا كان الخلان الأوفياء قد عز وجودهم في قديم الزمان، فوجودهم أعز اليوم وأندر، مع فساد الزمان، وانتشار موجة المادية، والتمسك بأسباب الدنيا ومتاعها وزينتها ومنافعها. فإذا عثر الإنسان على الصديق كان كالذي اهتدى إلى المستحيل وعثر على كنز ثمين. وقد قوموا الناس بالمال، فوزنوا مهرجا الهند، وقدموا المهور إلى الحسان، ولكن الصديق الحق إذا أخلص وبرئ على المصلحة، كان أثمن من الذهب فلا يقومه مال ولو عد بالملايين.
وقد سمعنا عن طلبة يأبون إعطاء مذكراتهم لزملائهم نفاسة واحسد وانفراداً بالامتياز، فكيف ترتقب من المدرسة أن تنشئ جيلاً من الأصدقاء وهذه حالتها؛ وكيف تزعم أن الروابط بين أفراد الشعب وثيقة مع انعدام الصداقات؟ أحمد فؤاد الأهواني
وأنا أعتقد أن دراسة هذه الموضوعات لا تسير في الطريق إلى تحقيق ذلك الهدف، بل إنها تصد الناشئ في الأدب عنه، وكان يعد الموضوع الأخير، وهو عرض النصوص، من الاتجاه الصحيح، لولا ما أفسده من أن المقصود به أن يكون تطبيقاً على الدروس العلمية.
ذلك هو الشعر في جوهره وطبيعته، وعلى ذلك فان كثيراً من النثر الذي تتحقق فيه هذه الصفات ليعد من روائع الشعر، فإذا - ما أردنا الشعر في الاصطلاح التزمنا النظم، وبواسطة الوزن والقافية والمهارة في التوقيع، نستطيع أن نجمع بين الشاعر والموسيقار، كما جمعنا بين الشاعر والمصور. وشتان بين هذا وبين الفلسفة. نعم شتان بين عمل العقل في التفكير والتحليل، وبين اختلاج النفس بالأحاسيس وامتلاء المخيلة بالصور، وجيشان القلب بالعاطفة، وامتلاء المحاجر بالدموع، أو إشراق الوجوه بالفرح، واهتزاز الهيكل كله بالموسيقى. وإذا كان الأمر كذلك فما أعجب الخلط بين الشاعر والفيلسوف في موضوع لا يمكن إلا أن يكون واحداً من اثنين: فإما إلى العقل وإما إلى القلب!! يستخلص ماكولي من ذلك أن الرجل إذامال إلى التفكير والتحليل كان أقرب إلى الفلسفة منه إلى الشعر، وإذاأسلس العنان لخياله وأحلامه، كان إلى الشعر أقرب منه إلى الفلسفة، وقل في الأمم مثلما تقول في الإنفراد. فالأمم كالأفراد، تبدأ أولاً بالإدراك الحسي، ثم بعد ذلك ترقى إلى الإدراك العقلي أو المعنوي، وبعبارة أخرى، تبدأ أولاً بفهم الصور الجزئية، ثم تتدرج منها إلى الحدود أو النصوص العامة، وعلى ذلك كانت لغة المجتمع الراقي لغة فلسفية، ولغة المجتمع نصف المتمدين لغة شعرية، وان التطور الذي يطرأ على اللغة من تذليلها وتوسيعها وإعدادها لمقابلة التقدم الفكري ليعد شديد الخطر على الشعر عظيم الفائدة للفلسفة.