أما قول أبي ذر: "وإن زنى وإن سرق" يدل استبعاد أبي ذر رضي الله عنه العفو عن الزاني والسارق، وهذا فيه استعظام أبي ذر لحرمات الله، وشدة نفرته من معصية الله.
إنها على ما يبدو سريعة الملاحظة ، سريعة التنبيه ، قوية نبرات الحديث في نصحها ، تكرر النصيحة في المجلس الواحد إن لم تجد استجابة ، فتنقلب النصيحة أوامر، والتنبيه وعيداً ، والملاحظة حواراً ونقاشاً. حديث «رغم أنف ثم رغم أنف..» - الموقع الرسمي للشيخ أ. د. خالد السبت. وقد يكون الامر بسيطاً لا يحتاج كل هذه الأمور ، فإذا بالمجلس ينفض ، والزائرين يختصرون زيارتهم ، وأفراد الأسرة يتوزعون إلى غرفهم ، والجو يتكهرب. وتنقلب ليلة الأنس ميدان حرب لا يفوز فيه احد سوى الشيطان الذي كان سبباً في اصفرار الوجوه وانعقاد ما بين العيون ، وتقطيب الجبين ، وارتفاع بعض الأصوات وغمغمة بعضها الآخر ، ويندم السامرون أنْ كرروا هذه اللقاءات والزيارات ، وهم يعلمون أنها ستنتهي هكذا دائماً ، لكنهم يعودون إليها رغبة في صلة الرحم وأملاً في تغيير الأسلوب – ولن يتغيّر – فمن شبّ على شيء شاب عليه. ومن ظن أنه أذكى من غيره فلن يقبل نصيحته ، ومن اعتقد بصواب ما يقول ويفعل فلن يغيّر مواقفه ، ولن يبدل من عادته. يقول صاحبي: هذا حالنا – باختصار – منذ خمسة وثلاثين عاماً ، وإني لأخشى أن يحزم الأهل أمرهم ، ويتخذ الأصدقاء والأحباب قرارهم ، فألفي نفسي وحيداً إلا من جليستي أم البنين فقد تزوجوا وبدأو حياتهم الجديدة – سنة الله في عباده - ، أو التلفاز ، فينقطع الجميع عنا ، وأراني بعد هذا أُكثـِرُ من صحبة الحاسوب والكتب ، فساعة أرضى هذه الصحبة وأطلبها ، وساعة أراني مضطراً إليها فليس هناك غيرها ، ولعلك تعلم أن الحديث مع زوجتي - وإن بدأته بالتودد إليها - فإنه عادة ما ينتهي بغير ذلك ، فهي تفهم على الأغلب ماتريد ، وينتهي الحديث قبل أن ينتهي!!
وكذا ذكره القاضي عياض - رحمه الله - في روايته لصحيح مسلم. ووجد في بعض الأصول المعتمدة من صحيح مسلم عكس هذا: ( قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: من مات لا يشرك بالله شيئا دخل الجنة. قلت أنا: ومن مات يشرك بالله شيئا دخل النار. ما هو معنى رغم أنف أبي ذر التي ذكرت في حديث (وإن زنى وإن سرق...) - أجيب. وهكذا ذكره الحميدي في الجمع بين الصحيحين عن صحيح مسلم - رحمه الله -. وهكذا رواه أبو عوانة في كتابه ( المخرج على صحيح مسلم) ، وقد صح اللفظان من كلام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حديث جابر المذكور.
وينبغي كذلك أن نعلم أن التقوى أرضى لربنا وأحب إليه ، ومقام المسلم التقيّ أعظم وأقرب إلى المولى جلّ شأنه. وكذلك ينبغي أن نعلم أمرين مهمين ، أما أولهما فالناس ليسوا في تفهّم الأمور سواء ، وهممهم مختلفة ، وتقبّلهم لها درجات متباينة ، وأما ثانيهما فإن الرفق في الدعوة سبيل النجاح ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه " واختيار أوقاتها دليل على فقه الداعية ، فقد كان الداعية الأول صلى الله عليه وسلم يتخوّل أصحابه في الموعظة. روى أبو هريرة رضي الله عنه قال: «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " كان رجلان من بني إسرائيل متواخيين أحدهما مجتهد في العبادة والآخر مذنب فأبصر المجتهد المذنب على ذنب فقال له: أقصِر فقال له: خلـِّني وربي قال: وكان يعيد ذلك ويقول: خلني وربي، حتى وجده يوما على ذنب فاستعظمه فقال: ويحك أقصر! مقالات اسلامية | حرَّمَ الله النارَ على مَنْ قال: لا إله إلا الله. قال: خلني وربي، أبعثت علي رقيبا؟! فقال: والله لا يغفر الله لك أو قال لا يدخلك الله الجنة أبدا. فبُعث إليهما ملكٌ فقبض أرواحهما فاجتمعا عند الله – جل وعلا – فقال ربنا للمجتهد: أكنت عالما أم كنت قادرا على ما في يدي، أم تحظر رحمتي على عبدي، اذهب إلى الجنة يريد المذنب، قال للآخر اذهبوا به إلى النار، فوالذي نفسي بيده لتكلم بكلمة أوبقت دنياه وآخرته " رواه ابن حبان في صحيحه.
وعن ابن بريدة أن يحيى بن يعمر حدثه أن أبا الأسود الديلي حدثه أن أبا ذر حدثه قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو نائم عليه ثوب أبيض ، ثم أتيته فإذا هو نائم ، ثم أتيته وقد استيقظ ، فجلست إليه فقال: ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة. قلت: وإن زنى وإن سرق قال: وإن زنى وإن سرق قلت: وإن زنى وإن سرق قال: وإن زنى وإن سرق ( ثلاثا) ثم قال في الرابعة: على رغم أنف أبي ذر قال: فخرج أبو ذر وهو يقول وإن رغم أنف أبي ذر) أما الإسناد الأول فكله كوفيون; محمد بن نمير ، وعبد الله بن مسعود ، ومن بينهما. وقوله: ( قال وكيع: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال ابن نمير: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -) هذا وما أشبه من الدقائق التي ينبه عليها مسلم - رضي الله عنه - دلائل قاطعة على شدة تحريه وإتقانه ، وضبطه وعرفانه ، وغزارة علمه وحذقه وبراعته في الغوص على المعاني ودقائق علم الإسناد وغير ذلك فرضي الله عنه -. والدقيقة في هذا أن ابن نمير قال رواية عن ابن مسعود: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا متصل لا شك فيه. وقال وكيع رواية عنه: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهذا مما اختلف العلماء فيه هل يحمل على الاتصال أم على الانقطاع ؟ فالجمهور أنه على الاتصال كسمعت.
وأما ( قرة) فهو ابن خالد. وأما ( المعرور) فهو بفتح الميم وإسكان العين المهملة وبراء مهملة مكررة. ومن طرف أحواله أن الأعمش قال رأيت المعرور وهو ابن عشرين ومائة سنة أسود الرأس واللحية. وأما ( أبو ذر) فتقدم أن اسمه جندب بن جنادة على المشهور وقيل غيره. وفي الإسناد ( أحمد بن خراش) بالخاء المعجمة تقدم. وأما ( ابن بريدة) فاسمه عبد الله ، ولبريدة ابنان سليمان وعبد الله وهما ثقتان ولدا في بطن ، وتقدم ذكرهما أول كتاب الإيمان. وابن بريدة هذا ويحيى بن يعمر وأبو الأسود ثلاثة تابعيون يروي بعضهم عن بعض. ( ويعمر) بفتح الميم وضمها تقدم أيضا. و ( أبو الأسود) اسمه ظالم بن عمرو هذا هو المشهور. وقيل: اسمه عمرو بن ظالم ، وقيل: عثمان بن عمرو ، وقيل: عمرو بن سفيان ، وقيل: عويمر بن ظويلم. وهو أول من تكلم في النحو وولي قضاء البصرة لعلي بن أبي طالب كرم الله وجهه. وأما ( الديلي) فكذا وقع هنا بكسر الدال وإسكان الياء. وقد اختلف فيه فذكر [ ص: 273] القاضي عياض أن أكثر أهل السنة يقولون فيه وفي كل من ينسب إلى هذا البطن الذي في كنانة ( ديلي) بكسر الدال وإسكان الياء كما ذكرنا ، وأن أهل العربية يقولون فيه الدؤلي بضم الدال وبعدها همزة مفتوحة.