وأخذ يستمع إلى كلمات حاطب، فقال له: "إني قد نظرت في أمر هذا النبي فوجدته لا يأمر بزهودٍ فيه، ولا ينهي عن مرغوب فيه، ولم أجدهُ بالساحر الضال، ولا الكاهن الكاذب، ووجدت معه آية النبوة بإخراج الخبء والأخبار بالنجوى وسأنظر". أخذ المقوقس كتاب النبي محمد بن عبد الله وختم عليه، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم: "بسم الله الرحمن الرحيم، إلى محمد بن عبد الله، من المقوقس عظيم القبط، سلام عليك، أما بعد فقد قرأت كتابك، وفهمت ما ذكرت فيه، وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبياً بقي، وكنت أظن أنه سيخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديتُ إليك بغلة لتركبها والسلام عليك». ثم بعث بمَارِيَة، وأختها سيرين، وألف مثقالٍ ذهبًا، وعشرين ثوبًا ليِّنًا، وبغلته الدلدل، وحماره عُفَيْرًا، ويقال: يعْفُور، وغلام خَصِيٌّ يقال له: مأْبُور، وبعث بذلك كله مع حاطب بن أبي بلتعة. ام ابراهيم ابن الرسول. فعرض حاطب بن أبي بلتعة على مارية الإسلام، ورغبها فيه فأسلمت، وأسلمت أختها ، وأقام الغلام الخصِيُّ على دينه حتى أسلم بالمدينة بعدُ في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم. وتذكر المصادر أن السيدة مارية كانت بيضاء جميلة، فأنزلها رسول الله في العالية، في المال الذي صار يقال له: سرية أم إبراهيم، وكان يختلف إليها هناك، وفي السنة الثامنة من الهجرة في شهر ذي الحجة ولد إبراهيم ابن رسول الله من مارية القبطية، فاشتدت غيرة أمهات المؤمنين منها حين رزقت ولدًا ذكرًا، وكانت قابلتها فيه سلمى مولاة رسول الله.
وثبت أن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بكى على ابنه إبراهيم دون رفع صوت، وقال: تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون. وعن جابر قال: أخذ النبي صلى الله عليه وآله وسلم بيد عبدالرحمن بن عوف، فأتى به النخل، فإذا ابنه إبراهيم في حجر أمه، وهو يكيد بنفسه، فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجره، ثم قال: يا إبراهيم. إبراهيم ابن النبي صلى الله عليه وسلم آخر. إنا لا نغني عنك من الله شيئًا. ثم ذرفت عيناه، ثم قال: يا إبراهيم، لولا أنه أمر حق، ووعد صدق، وأن آخرنا سيلحق أولنا لحزنًا عليك حزنًا هو أشد من هذا، وإنا بك يا إبراهيم لمحزونون، تبكي العين، ويحزن القلب، ولا نقول ما يسخط الرب. ووافق موته كسوف الشمس، فقال قوم: إن الشمس انكسفت لموته، فخطبهم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فقال: إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته، فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكر الله عز وجل والصلاة. وقال صلى الله عليه وآله وسلم حين توفي ابنه إبراهيم: إن له مرضعًا في الجنة تتم رضاعه. وقد قيل إن الفضل بن العباس غسّل إبراهيم ونزل في قبره مع أسامة ابن زيد، ورسول الله صلى الله عليه وآله وسلم جالس على شفير القبر، حيث رشّ قبره، وأعلم فيه بعلامة.
ومن جهة أخرى فقد روي عن أنس رضي الله عنه بسند صحيح قال: "لو عاش إبراهيم ابنُ النبي صلى الله عليه وسلم، لكان صدِّيقًا نبيًّا" [4]. كما أخرج البخاري في صحيحه من طريق إسماعيل بن أبي خالد قال: "قلت لابن أبي أوفى: رأيتَ إبراهيمَ ابنَ النبي؟ قال: مات صغيرًا، ولو قُضِيَ أن يكون بعد محمد صلى الله عليه وسلم نبيٌّ، عاش ابنه؛ ولكن لا نبي بعده" [5]. ابراهيم بن محمد، ابن الرسول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم، وأمه مارية القبطية.. فهل الحكمة من موت إبراهيم هو حفظ الأمَّة من الافتتان به بعد وفاة النبي؟ وقد حدثت بوادر ذلك في حياة الرسول، عندما انكسفت الشمس يوم وفاته، فقال الناس: انكسفت لموت إبراهيم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته)) [6]. وهل العلة من موت إبراهيم لحكمة متعلقة بالرسالة وبمصلحة الأمة؛ حيث لو عاش لغلا فيه الناس؟ وهل صحيح أن السر في موت إبراهيم أن لو عاش لكان نبيًّا؛ فأراد الله أن يقطع شبهة وراثة النبوة بموته؟ ولو افترضنا ذلك جدلاً، واستحضرنا قوله عز وجل: ﴿ مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 40]. فهذه الآية كما ذكر ابن كثير في تفسيره: نصٌّ في أنه لا نبي بعده.
۞ وَإِن جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ ۚ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) قوله تعالى: ( وإن جنحوا للسلم) أي: مالوا إلى الصلح ، ( فاجنح لها) أي: مل إليها وصالحهم. روي عن قتادة والحسن: أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى: " فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم " براءة - 5 " ( وتوكل على الله)! ثم بالله ، ( إنه هو السميع العليم)
* * * وبنحو ما قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: 16253- حدثني محمد بن عمرو قال، حدثنا أبو عاصم قال، حدثنا عيسى, عن ابن أبي نجيح, عن مجاهد، (وإن يريدوا أن يخدعوك) ، قال: قريظة. 16254- حدثنا ابن حميد قال، حدثنا سلمة, عن ابن إسحاق: (وإن يريدوا أن يخدعوك فإن حسبك الله) ، هو من وراء ذلك. (4) 16255- حدثني محمد بن الحسين قال، حدثنا أحمد بن المفضل قال، حدثنا أسباط, عن السدي: (هو الذي أيدك بنصره) ، قال: بالأنصار. --------------------- الهوامش: (1) انظر تفسير " الخداع " فيما سلف 1: 273 - 277 ، 302 9: 329. (2) انظر تفسير " حسبك " فيما سلف 11: 137 ، تعليق: 2 ، والمراجع هناك. (3) انظر تفسير " أيد " فيما سلف 13: 377 ، تعليق: 3 ، والمراجع هناك. وإن جنحوا للسلم فاجنح لها اسلام ويب. (4) الأثر: 16254 - سيرة ابن هشام ، 2: 331 ، وهو تابع الأثر السالف رقم: 16252.
أقول: إن الفرق واضح بين ما قرره الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق من إبطال الصلح مع العدو مطلقاً وما قرره الشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله من جواز ذلك عند الضرورة والحاجة لما تقتضيه مصلحة المسلمين لا سيما في حال الضعف، نعم لو كان المسلمون في حال قوة وعندهم القدرة على إخراج العدو فلا يجوز الصلح معهم.
والسِّلْمُ هي الصلح فالأمن وضدُّها الحرب كما قال الأعشى الكبير: بني عمِّنا لا تبعثوا الحربَ بيننا *** كردِّ رجيعِ الرفضِ وارمُوا إلى السِّلْم [2] وقال مسلم بن معبد: فأيُّ أخٍ لسِلمك بعدَ حربي *** إذا قومُ العدوِّ دُعُوا فجاءوا [3] وقال عامر المحاربي: جنيتم علينا الحربَ ثم ضجعتم *** إلى السلم لما أصبح الأمرُ مُبهَما [4] وللأمن قول الخنساء: ونلبس في الحرب نسجَ الحديد *** ونسحب في السلم خزًّا وقزَّا [5] والسلم أيضًا الإسلام كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ﴾ [البقرة: 208].
(62) في المطبوعة: " ويشرط كل فريق... " ، وفي المخطوطة: " ويشترط... " ، والصواب بينهما ما أثبت. (63) انظر تفسير " سميع " و " عليم " فيما سلف من فهارس اللغة ( سمع) ، ( علم).