المقام الرابع: مقام الغنى عن الناس بمقدار العلم والمعلومات فكلما ازداد علم العالم قوي غناه عن الناس في دينه ودنياه. المقام الخامس: الالتذاذ بالمعرفة ، وقد حصر فخر الدين الرازي اللذة في المعارف ؛ وهي لذة لا تقطعها الكثرة. وقد ضرب الله مثلا بالظل إذ قال وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور فإن الجلوس في الظل يلتذ به أهل البلاد الحارة. المقام السادس: صدور الآثار النافعة في مدى العمر مما يكسب ثناء الناس في العاجل وثواب الله في الآجل. فإن العالم مصدر الإرشاد والعلم ودليل على الخير وقائد إليه ؛ قال الله تعالى إنما يخشى الله من عباده العلماء والعلم على مزاولته ثواب جزيل ، قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - ما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم الملائكة وغشيتهم الرحمة وذكرهم الله فيمن عنده. [ ص: 351] وعلى بثه مثل ذلك ، قال النبيء - صلى الله عليه وسلم - إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية ، وعلم بثه في الصدور ، وولد صالح يدعو له بخير. فهذا التفاوت بين العالم والجاهل في صوره التي ذكرناها مشمول لنفي الاستواء الذي في قوله تعالى قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون وتتشعب من هذه المقامات فروع جمة وهي على كثرتها تنضوي تحت معنى هذه الآية.
قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولو الألباب استئناف بياني موقعه كموقع قل تمتع بكفرك قليلا أثاره وصف المؤمن الطائع ، والمعنى: أعلمهم يا محمد بأن هذا المؤمن العالم بحق ربه ليس سواء للكافر الجاهل بربه. وإعادة فعل " قل " هنا للاهتمام بهذا المقول ولاسترعاء الأسماع إليه. والاستفهام هنا مستعمل في الإنكار. والمقصود: إثبات عدم المساواة بين الفريقين ، وعدم المساواة يكنى به عن التفضيل. والمراد: تفضيل الذين يعلمون على الذين لا يعلمون ، كقوله تعالى لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين أو بالقرينة كما في قوله هنا هل يستوي الذين يعلمون إلخ ؛ لظهور أن العلم كمال ولتعقيبه بقوله إنما يتذكر أولو الألباب ولهذا كان نفي الاستواء في هذه الآية أبلغ من نفي المماثلة في قول النابغة: يخبرك ذو عرضهم عني وعالمهم وليس جاهل شيء مثل من علما وفعل " يعلمون " في الموضعين منزل منزلة اللازم فلم يذكر له مفعول. والمعنى: الذين اتصفوا بصفة العلم ، وليس المقصود الذين علموا شيئا معينا حتى يكون من حذف المفعولين اختصارا إذ ليس المعنى عليه ، وقد دل على أن المراد الذين اتصفوا بصفة العلم قوله عقبه إنما يتذكر أولو الألباب أي: هل العقول ، والعقل والعلم مترادفان ، أي: لا يستوي الذين لهم علم فهم يدركون حقائق الأشياء على ما هي عليه وتجري أعمالهم على حسب علمهم ، مع الذين [ ص: 349] لا يعلمون فلا يدركون الأشياء على ما هي عليه بل تختلط عليهم الحقائق وتجري أعمالهم على غير انتظام ، كحال الذين توهموا الحجارة آلهة ووضعوا الكفر موضع الشكر.
فحين يتمكن الفكر الظلامي الأسود الضال(التسمية الرسمية السعودية لقطعان القتل والتفجير)، من عقل وقلب المرء، فيستوي عندها الجميع، ويصبحون سواسية كعمامات الفقهاء، وينطقون بنفس خطاب علماء "الأمة" الأبرار. ويقود، عندئذ، الأميُ العالمَ، والمريضُ الطبيبَ، والأعورُ البصيرَ، والجاهلُ الحليمَ، والطفلُ الصغير الرجلَ الكبير، وكله باسم الدين، وباسم الله. كم كان الاستغراب والدهشة والذهول يتملكاني وأنا أتابع شيوخ "الصحوة" الأجلاء، في حلقات الذكر المنقولة فضائياً وهم يحقنون مستمعيهم المساكين من ضحاياً التسونامي الصحوي، وحقبته البترودولارية، بتلك الجرعات العالية من السموم الفكرية والمخدرات، والتي تحتوي على كم هائل من التبسيط والتسطيح والتسطيل والاهتراء، فيما ترى الحضور سكارى مخدرين وجذلين، بما أوتوا من خمر وخدر لذيذ وعذب الخطاب الطنان الرنان، ومطربين بحلو الكلام الذي كان يـُلقى على مسامعهم دون نقاش أو سؤال ويأخذونه من بابه لمحرابه على محمل القدسية والتأليه ودون جدال. وكم كان القوم في تلك الحضرة الصحوية المباركة في حالة من النشوة العارمة متناسين كل مشاكلهم الحياتية اليومية، ومعلقين بعوالم افتراضية وسحرية تأخذهم إلى كواكب وأزمان أسطورية سالفة آفلة مليئة بالورود والرومانس تلهيهم عن واقعهم المر الأليم المعاش والذين لا يملكون حياله إلا التشبث بحبال الأوهام ، والتي يجيد فبركتها وصناعتها هؤلاء الدعاة.
لقد اتخذ العلم لأول مرة صفة العالمية في جامعات العصر الوسيط الإسلامية..... كان العلم الإخ التوأم للدين..... وكانت البلاد المسيحية في تلك الفترة في القرون الوسطى في ركود وتزمت مطلق توقف معه البحث العلمي... " ويقول الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه " الدين والعلم":" لا خصومة عندنا -نحن المسلمين – بين الدين والعلم ، وأن العلم عندنا دين ، والدين عندنا علم ، وأن حضارتنا هي الحضارة التي جمعت بين العلم والإيمان ". أيها الحضور الكرام أيها السادة إن الحضارة لا قيام لها إلا بالعلم. و ريادة وقيادة العالم لا يكون إلا بالعلم. والمسلمون عندما كانوا يهتمون بالعلم وطلبه وكانت المدارس والمساجد تكتظ بطلاب العلم بدل المقاهي والساحات كانت لنا الريادة و القيادة كما أردها الله لنا "كنتم خير أمة أخرجت للناس". والغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية ما وصلت إلى ما وصلت إليه اليوم إلا من خلال اهتمامه بالعلم واعتباره مفتاح التقدم. فالحضارة لا تبنى بالكسل والجهل والأمية وإنما تبنى بالعلم والعمل ، ولا بد من الإشارة في نهاية العنصر أن طلب العلم لا يرتبط بسن معين ولا بجنس وإنما طلب العلم من المهد إلى اللحد وفريضة على كل مسلم ومسلمة.
وأما العلوم التي لا تشملها تلك الآية، والتي وردت مذمتها في كتاب الله، فهي التي كان أهلها في غفلة عن الآخرة. قال تعالى: وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ * يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآَخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ {الروم: 6-7}. والله أعلم.
إن تأثير العلم على الحياة الاقتصادية واضح جدا من خلال المقارنة بين نسبة الأمية ومستوى الدخل القومي فهما مرتبطان ببعضهما. لقد أصبح معروفاً أن تدني الناتج القومي مرتبط ارتباطا مباشرا بتدني الإنتاجية وشيوع البطالة. فتدني الإنتاجية أو ارتفاعها مرتبط بمستوى الحالة التعليمية للعامل والموظف. وتعتبر الأمية أهم العناصر المؤثرة في تدني الإنتاجية لدى العامل الأمي كما يعتبر التعليم العنصر الرئيسي في ارتفاع إنتاجية عامل آخر يعمل في نفس الظروف التي يعمل فيها العامل الأمي، فنسبة الأمية ومستوى الدخل القومي مرتبطان. كما تؤكد دراسات لحالات الفقر وجود ارتباط بين الفقر والأمية وارتباط هذه الأخيرة بمشكلة البطالة، وكذلك على صعيد أنماط السلوك الاجتماعي فإن الأمية لها تأثيرها في سلوك الأفراد تجاه قضايا مثل التربية والمشاركة السياسية والسلامة النفسية والبدنية والصحية للأبناء، واستغلال الموارد والتطور الثقافي والعلاقات الاجتماعية داخل الأسرة أو بين أفراد المجتمع. كما توجد صلات وثيقة بين التعليم والصحة والتغذية ، و نلاحظ أنه كلما كانت الأم متعلمة انخفض عدد وفيات الأطفال ، وملاحظة العلاقة بين التعليم والتطور تظهر أن عمليتي التطور والتغيير تحدثان بانسجام وفي وقت أسرع في المجتمعات التي ينتشر التعليم بين أفرادها.
ولقد تميزت حضارة الإسلام على أنها حضارة علمية تهتم بالعلم والبحث العلمي ورفعته إلى درجة العبادة. والإسلام لم يعرف أبدا خصومة مع العلم كما هو الحال مع الديانة المسيحية المحرفة، ونحن نعرف المحنة التي عاشها العلماء في الغرب مع الكنيسة ورجال الدين، وصلت إلى حد القتل كما حدث مع كاللي العالم الفلكي في قضية دوران الأرض. ولولا الحضارة الإسلامية لا ضاع العلم ولا تأخرت البشرية ألاف السنين ولما وصلت إلى ما وصلت إليه الآن فنهضة الغرب في القرن الخامس عشر كانت عبر العالم الإسلامي من خلال الترجمة والبعثات الطلابية التي كانت ترسل إلى العالم الإسلامي ومنها المغرب، وهذه حقيقة لا ينازع فيها عاقل وهي شهادة وتقرير من علماء ومفكرين غربيين قبل أن يؤكدها علماؤنا، يقول العالم غوستاف لوبون:" كان المسلمون يفوقون النصارى كثيرا في الأخلاق والعلوم والصناعات". ونقف مع نص أخر أكثر تعبيرا للعالم والطبيب الفرنسي الكبير موريس بوكاي في كتابه الرائع " القرآن الكريم والتوراة والإنجيل والعلم" يقول:"... ولكم نحن مدينون للثقافة الإسلامية في الرياضات (الجبر) وعلم الفلك والفزياء (بصريات) والجولوجيا وعلم النباتات والطب (ابن سينا) إلى غير ذلك.