يبدو أننا ومع الانحدار المستمر في العالم أدرك أغلبنا أن عجلة العالم في دورانها العجول قادرة على دهسنا في أي لحظة، وأن كثيرين منا لا يمكنهم مجاراتها بالسرعة، فاتجه كل منا إلى استخدام آلياته الدفاعية مدفوعين بغريزة البقاء، فمنا من انكفأ على نفسه ومنا من اختبأ خلف أي دريئة ليحتمي بها، علّ تلك العجلة تسهو عن وجوده ولا تدهسه في طريقها. قلة قليلة فقط اختارت متابعة المسير وحاولت التأقلم، وحافظت على حقها في حلم الحرية واستبسلت في محاولة تحقيقه، بل واختارت أن تكون في موقع المهاجم الشرس الذي يستميت ليأخذ حصته من الحياة على الرغم من وجود كثير من العوائق، واضعة في حسبانها أن قوانين العالم الجديد لا ترحم "ولكن تؤخذ الدنيا غلابا". أي نوع من الصبر وأي رغبة عارمة بالحياة تلك التي دفعت أولئك الأسرى ليستمروا بالحفر سنوات من دون أن يفقدوا الأمل إذن، إذا لم يكونوا قد شحذوا هممهم طوال ذلك الوقت ولم يغب حلم الحرية عن أفكارهم يوماً. وما نيل المطالب بالتمنى ولكن تؤخذ الدنيا غلابا - رحاب عمر - سلوا قلبى - YouTube. لا يمكن إلا أن نجري مقاربة مع حالة الأسر المستدام التي يعيشها السوريون اليوم ليس في داخل سوريا فحسب، وإنما مع حالة الأسر النفسية التي قد تمجد الاستبداد أو تستسيغه، أو أولئك الذين يستكينون إلى حالة الأسر ويفقدون الأمل بالحرية ولا يمتلكون الصبر والمحاولة لتحقيقها.
وما نيل المطالب بالتمني ولكن تؤخذ الدنيا غلابا ( احمد شوقي) - YouTube
ومن نظر في أحوال هؤلاء الذين انتزعوا شيئًا من حقوقهم، وحقوق أُمَمِهم، وجد التضحيات سبيلهم في نيل هذه الحقوق. فها هم المسلمون الأوائل، لَم يُعْلوا راية الدِّين، ويُبلِّغوا الناس دعوة ربِّ العالمين، إلاَّ بجودهم بأموالهم وأنفسهم، والنبِيُّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - لطالَما حرص على تأصيل ذلك في نفوسهم، من ذلك قوله لهم: ((إذا تبايَعْتم بالعِينة، وأخذْتُم بأذناب البقَر، ورضيتم بالزَّرع، وتركتُم الجهاد في سبيل الله، سلَّط الله عليكم ذُلاًّ لا يَنْزعه عنكم حتَّى ترجعوا إلى دينكم)). وما نيل المطالب بالتمني - اقتباسات أحمد شوقي - الديوان. ونحن إذا أردنا أن نُقسِّم الصحابة من هذه الناحية، ففي وُسْعنا أن نَجعلهم ثلاثة أقسام: قِسْم: جاد بِماله كلِّه أو أكثره؛ وفيهم أبو بكر وعمر وعثمان وعبدالرحمن بن عوف وخديجة، وغيرهم كثير - رضي الله عنهم. والقسم الثاني: جاد بنفسه حتَّى قُتِل في سبيل الله أو كاد أن يُقتل؛ وفيهم بلالٌ وخبَّاب ومصعب وخالد وأبو عبيدة وعمرو بن العاص وسعد بن أبي وقَّاص، وغيرهم كثير جدًّا - رضي الله عنهم. والقسم الثالث: جاد بأهله ومسْكنِه وأرضه. وهذه الأقسام بشأن المهاجرين، وأمَّا بشأن الأنصار فهؤلاء لله دَرُّهم، وعليه شكرهم؛ فقد جادوا بأموالهم وأنفسهم.
وليس " مارتن لوثر كينج " عنَّا ببعيد، الذي اهتزَّت أمريكا بِجَبروتِها لِمَقتله، حتَّى نُكس العلَمُ الأمريكيُّ من فوق البيت الأبيض؛ حدادًا عليه، وهو رجل أسود، وقد أَجْبَر " كينج " بنضاله المُجتمعَ الأمريكيَّ على أن ينظر لِمُواطنيه السُّود بعين أخرى جديدة، أمَّا عن الزُّنوج أنفسهم فقد أحيا فيهم الشُّعور بالاعتزاز والثِّقة بالنَّفْس. وهذا عابد البقَرِ الهنديُّ " غاندي " قد رصد كلَّ قُوَاه حتَّى اغْتِيل؛ لِيُحرِّر وطنه من براثن الاحتلال الإنكليزي، وبالفعل لَم يَلْق حتْفَه إلاَّ وقد انتزع من بريطانيا أكبر دُرَّة في تاج إمبراطوريتها! تُؤخذ الدنيا غلابا. وهذا زعيم العُمَّال البولندي الذي لقي حتْفَه من أجل تثبيت حقوق العُمَّال في " بولندا "، بعد أن أَضرب عن الطَّعام لِمُدَّة واحد وعشرين يومًا، فحصل العُمَّال مِن بعدُ هناك على حقوقهم، وأقاموا لزعميهم التماثيل، وخلَّدوا ذِكْرَه في كتبهم وتواريخهم. وباستقراء تلك الحقائق التَّاريخية، يتبيَّن للبصير أنَّ مَن يضطهد من أجل عقيدةٍ يُؤمن بِها لا يزداد إلاَّ ثباتًا عليها، ولا تؤتي عقيدتُه أُكلَها في الناس إلا بقدر ما يلاقيه من الصِّعاب من أجلها، وكلُّ دعوة لن يَبْلغ أصحابُها بِها منتهاها إلاَّ بِبَذلِهم وتضحيتهم، ولن يُدْركوا غايتها براحة الأبدان وسلامة الأنفس وكَنْز الأموال.
لم تطل الحكاية.. بصيص الأمل الذي فتحه الرفاق وهم يحفرون نفقهم ليخرجوا إلى الضوء، بدأ يخبو سريعاً معلناً انتهاء فسحة الأمل. عاود الاحتلال اعتقال الغالبية منهم لتبقى غصة الأمل في الحنجرة، ونحن نترقب مصيرهم بأسى لأن رحلة الحرية لم تدم طويلاً، عدا عن الخوف حول مصيرهم. ربما كانت حكاية الأسرى الستة الذين فروا من سجون الاحتلال هي حدث العام وأكثر ما يمكن أن يضع بصمة إيجابية على أخبار الموت والحرب المستمرة بشكل يومي، لكن القدر شاء أن تنتهي على عجل لنستمر في الحرب الطاحنة من جديد بعد أن فقدنا الأمل وأنهكنا تعب الترقب. كان لتلك الحادثة أثر جميل جعلنا نتنفس الصعداء ونستعيد أنفاسنا بعد رحلة يأس طويلة، تخللها تسليم القدس للاحتلال ونقل سفارات العالم إليها، ما يعد بمنزلة اعتراف بشرعية الاحتلال وتمكينه عالمياً. وكنتيجة طبيعية لشكل العالم الجديد الذي بدأنا باعتياده منذ بداية القرن، بدأ شكل الخطاب الإعلامي يتغير شيئاً فشيئاً وفقاً لقوانين المرحلة الجديدة، فيعنون أخباره بعبارات من قبيل "القوات الإسرائيلية" من دون أن يستخدم مصطلحات الاحتلال أو الكيان الغاصب، وهذا إن دلّ فهو يدل على مؤشر خطير قد يضفي شرعية على قوات غاصبة أصلاً، وقد يؤسس لفهم جديد لدى الشريحة المستمعة بحيث نقع فيما بعد في فخ مصطلحات تتقبل ذلك الكيان على أنه خصم وليس كياناً محتلاً.
وتحقيق ذلك بالدليل المادي التاريخي: أنَّ الله بارك في أوقات العُلماء الربَّانيين، ففعلوا ما يصعب تصوُّره في الحسابات المادِّية، وبارَك الله تعالى في أقوالهم وأفعالهم وكتبهم، فبلغَت مبلغًا من النفع والأثر لَم يكن لِيَخطر لَهم ببال، وقد كانوا عظيمي التَّضحية بأوقاتِهم وعلومهم. وكما أنَّ هناك أمورًا تُعِين على بذل التَّضحيات، فهناك أمور تبعث على التخاذل، أساسها: ضعف الإيمان بالقضيَّة، وتزعزعُ القَناعةِ والثِّقة بالنَّفس، وبسلامة الطَّريق الذي يسير فيه، والرُّكونُ إلى الدنيا وحُبُّها، والتعلُّق بشوائبها ولذَّاتِها، بحيث يطلبها المتخاذل لذَّاتها وعينها، ويسعى لها سعيًا حثيثًا بلا نية صالحة، وقد ينشغل بالتضحية من أجلها. ومن الأمور التي تبعث على التخاذل أيضًا: إيثار الدَّعَة والراحة، وطول الأمل، والْجُبْن، والبخل، والطَّمع، والعجز، والكَسَل، والشُّعور بالأثَرة، وحب النَّفس، وانعدام الجدية، ودنو الهمة، والانْخِداع بالواقع أو الجهل به. وبعض هذه الأسباب - بل وقليلٌ منها - كافٍ في حدِّ ذاته في تحطيم النفس، وتثبيط الهمة عن البذل والتضحية، فما بالنا باجتماعها، أو اجتماع أكثرها؟! ألاَ قد عَلِم كلٌّ منا ما يجب عليه!