والعرب تقول: سبقه على كذا أي غلبه عليه وأعجزه عن إدراكه ، أي: وما نحن بمغلوبين على ما قدرنا من آجالكم وحددناه من أعماركم فلا يقدر أحد أن يقدم أجلا أخرناه ولا يؤخر أجلا قدمناه. وهذا المعنى دلت عليه آيات كثيرة كقوله تعالى: فإذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون [ 7 \ 34] ، وقوله تعالى: إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر [ 71 \ 4] ، وقوله تعالى: وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا [ 3 \ 145] ، إلى غير ذلك من الآيات. وعلى هذا القول ، فقوله تعالى: على أن نبدل أمثالكم [ 56 \ 61] ، ليس متعلقا بـ " مسبوقين " بل بقوله تعالى: نحن قدرنا بينكم الموت [ 56 \ 60] ، والمعنى: نحن قدرنا بينكم الموت على أن نبدل أمثالكم ، أي نبدل من الذين ماتوا أمثالا لهم نوجدهم. وعلى هذا ، فمعنى تبديل أمثالهم - إيجاد آخرين من ذرية أولئك الذين ماتوا ، وهذا المعنى تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين [ 6 \ 133] ، إلى غير ذلك من الآيات. إسلام ويب - تفسير السعدي - تفسير سورة الواقعة - تفسير قوله تعالى أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون- الجزء رقم8. وهذا التفسير هو اختيار ابن جرير ، وقراءة " قدرنا " بالتشديد مناسبة لهذا الوجه ، وكذلك لفظة " بينكم ". الوجه الثاني: أن " قدرنا " بمعنى قضينا وكتبنا أي كتبنا الموت وقدرناه على جميع الخلق ، وهذا الوجه تشهد له آيات من كتاب الله كقوله تعالى: كل شيء هالك إلا وجهه [ 28 \ 88] ، وقوله تعالى: كل نفس ذائقة الموت [ 21 \ 35] ، وقوله تعالى: وتوكل على الحي الذي لا يموت [ 25 \ 58] ، وعلى هذا القول فقوله: على أن نبدل [ 56 \ 61] ، متعلق بـ " مسبوقين " ، أي: ما نحن مغلوبين ، والمعنى: وما نحن بمغلوبين على أن نبدل أمثالكم إن أهلكناكم لو شئنا ، فنحن قادرون على إهلاككم ، ولا يوجد أحد يغلبنا ويمنعنا من خلق أمثالكم بدلا منكم.
أفرأيتم ما تمنون أأنتم تخلقونه أم نحن الخالقون نحن قدرنا بينكم الموت وما نحن بمسبوقين على أن نبدل أمثالكم وننشئكم في ما لا تعلمون ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون [ ص: 1768] أي: أفرأيتم ابتداء خلقتكم من المني الذي تمنون، فهل أنتم خالقون ذلك المني وما ينشأ منه؟ أم الله تعالى الخالق الذي خلق فيكم من الشهوة وآلتها في الذكر والأنثى، وهدى كلا منهما لما هنالك، وحبب بين الزوجين، وجعل بينهما من المودة والرحمة ما هو سبب التناسل. ولهذا أحالهم الله تعالى بالاستدلال بالنشأة الأولى على النشأة الأخرى، فقال: ولقد علمتم النشأة الأولى فلولا تذكرون أن القادر على ابتداء خلقكم، قادر على إعادتكم.
وفي هَذِهِ الاِسْتِعارَةِ كِنايَةٌ عَنْ كَوْنِ المَوْتِ فائِدَةً ومَصْلَحَةً لِلنّاسِ أمّا في الدُّنْيا لِئَلّا تَضِيقَ بِهُمُ الأرْضُ والأرْزاقُ وأمّا في الآخِرَةِ فَلِلْجَزاءِ الوِفاقِ. (p-٣١٦)وتَقْدِيمُ المُسْنَدِ إلَيْهِ عَلى المُسْنَدِ الفِعْلِيِّ لِإفادَةِ تَقَوِّي الحُكْمِ وتَحْقِيقِهِ، والتَّحْقِيقُ راجِعٌ إلى ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ التَّرْكِيبُ مِن فِعْلِ (قَدَّرْنا) وظَرْفُ (بَيْنَكُمُ) في دَلالَتِهِما عَلى ما في خَلْقِ المَوْتِ مِنَ الحِكْمَةِ الَّتِي أشَرْنا إلَيْها. وقَرَأ الجُمْهُورُ قَدَّرْنا بِتَشْدِيدِ الدّالِّ. وقَرَأهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِالتَّخْفِيفِ وهُما بِمَعْنًى واحِدٍ، فالتَّشْدِيدُ مَصْدَرُهُ التَّقْدِيرُ، والتَّخْفِيفُ مَصْدَرُهُ القَدْرُ. * * * ﴿وما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ﴾ ﴿عَلى أنْ نُبَدِّلَ أمْثالَكم ونُنْشِئَكم في ما لا تَعْلَمُونَ﴾.
ويُفِيدُ قَوْلُهُ ﴿نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ المَوْتَ﴾ إلَخْ وراءَ ذَلِكَ عِبْرَةً بِحالِ المَوْتِ بَعْدَ الحَياةِ فَإنَّ في تَقَلُّبِ ذَيْنِكَ الحالَيْنِ عِبْرَةً وتَدَبُّرًا في عَظِيمِ قُدْرَةِ اللَّهِ وتَصَرُّفِهِ فَيَكُونُ مِن هَذِهِ الجِهَةِ وِزانُهُ وِزانُ قَوْلِهِ الآتِي لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ حُطامًا وقَوْلِهِ ﴿لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجًا﴾ [الواقعة: ٧٠] وقَوْلِهِ ﴿نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً ومَتاعًا لِلْمُقْوِينَ﴾ [الواقعة: ٧٣]. ومَعْنى ﴿أنْ نُبَدِّلَ أمْثالَكُمْ﴾: نُبَدِّلُ بِكم أمْثالَكم، أيْ نَجْعَلُ أمْثالَكم بَدَلًا. وفِعْلُ (بَدَّلَ) يَنْصِبُ مَفْعُولًا واحِدًا ويَتَعَدّى إلى ما هو في مَعْنى المَفْعُولِ الثّانِي بِحَرْفِ الباءِ، وهو الغالِبُ أوْ بِ (مِنَ) البَدَلِيَّةِ فَإنَّ مَفْعُولَ (بَدَّلَ) صالِحٌ لِأنْ يَكُونَ مُبْدَلًا ومُبْدَلًا مِنهُ، وقَدْ تَقَدَّمَ في سُورَةِ البَقَرَةِ قَوْلُهُ تَعالى﴿أتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هو أدْنى﴾ [البقرة: ٦١]، وفي سُورَةِ النِّساءِ عِنْدَ قَوْلِهِ ﴿ولا تَتَبَدَّلُوا الخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ﴾ [النساء: ٢]، فالتَّقْدِيرُ هُنا: عَلى أنْ نُبَدِّلَ مِنكم أمْثالَكم، فَحُذِفَ مُتَعَلِّقُ (نُبَدِّلَ) وأُبْقِيَ المَفْعُولُ لِأنَّ المَجْرُورَ أوْلى بِالحَذْفِ.
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ حَتَّىٰ تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) تفسير سورة ( لم يكن) وهي مكية في قول يحيى بن سلام. ومدنية في قول ابن عباس والجمهور. وهي تسع آيات وقد جاء في فضلها حديث لا يصح ، رويناه عن محمد بن محمد بن عبد الله الحضرمي قال: قال لي أبو عبد الرحمن بن نمير: اذهب إلى أبي الهيثم الخشاب ، فاكتب عنه فإنه قد كتب ، فذهب إليه ، فقال: حدثنا مالك بن أنس ، عن يحيى بن سعيد ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي الدرداء ، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: " لو يعلم الناس ما في ( لم يكن) الذين كفروا من أهل الكتاب ، لعطلوا الأهل والمال ، فتعلموها " فقال رجل من خزاعة: وما فيها من الأجر يا رسول الله ؟ قال: " لا يقرؤها منافق أبدا ، ولا عبد في قلبه شك في الله. والله إن الملائكة المقربين يقرءونها منذ خلق الله السماوات والأرض ما يفترون من قراءتها. وما من عبد يقرؤها إلا بعث الله إليه ملائكة يحفظونه في دينه ودنياه ، ويدعون له بالمغفرة والرحمة ". قال الحضرمي: فجئت إلى أبي عبد الرحمن بن نمير ، فألقيت هذا الحديث عليه ، فقال: هذا قد كفانا مئونته ، فلا تعد إليه.
منفكين أي منتهين عن كفرهم ، مائلين عنه. حتى تأتيهم أي أتتهم البينة; أي محمد - صلى الله عليه وسلم -. وقيل: الانتهاء بلوغ الغاية أي لم يكونوا ليبلغوا نهاية أعمارهم فيموتوا ، حتى تأتيهم البينة. فالانفكاك على هذا بمعنى الانتهاء. وقيل: منفكين زائلين; أي لم تكن مدتهم لتزول حتى يأتيهم رسول. والعرب تقول: ما انفككت أفعل كذا: أي ما زلت. وما انفك فلان قائما ، أي ما زال قائما. وأصل الفك: الفتح; ومنه فك الكتاب ، وفك الخلخال ، وفك السالم. قال طرفة: فآليت لا ينفك كشحي بطانة لعضب رقيق الشفرتين مهند وقال ذو الرمة: حراجيج ما تنفك إلا مناخة على الخسف أو نرمي بها بلدا قفرا يريد: ما تنفك مناخة; فزاد إلا. وقيل: منفكين: بارحين; أي لم يكونوا ليبرحوا ويفارقوا الدنيا ، حتى تأتيهم البينة. وقال ابن كيسان: أي لم يكن أهل الكتاب تاركين صفة محمد - صلى الله عليه وسلم - في كتابهم ، حتى بعث; فلما بعث حسدوه وجحدوه. وهو كقوله: فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به. ولهذا قال: وما تفرق الذين أوتوا الكتاب... الآية. وعلى هذا فقوله والمشركين أي ما كانوا يسيئون القول في محمد - صلى الله عليه وسلم - ، حتى بعث; فإنهم كانوا يسمونه الأمين ، حتى أتتهم البينة على لسانه ، وبعث إليهم ، فحينئذ عادوه.
والمتشابه فيها إِعادة البينة، والبرية، وقد سبق. فصل في التعريف بالسورة الكريمة:. قال ابن عاشور: سورة البينة: وردت تسمية هذه السورة في كلام النبي صلى الله عليه وسلم {لم يكن الذين كفروا}. روَى البخاري ومسلم عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبي بن كعب: «إن الله أمرني أن أقرأ عليك: {لم يكن الذين كفروا} قال: وسمّاني لك؟ قال: نعم. فبكى» فقوله: «أن أقرأ عليك: {لم يكن الذين كفروا} » واضحٌ أنه أراد السورة كلها فسماها بأول جملة فيها، وسميت هذه السورة في معظم كتب التفسير وكتب السنة سورة {لم يكن} بالاقتصار على أول كلمة منها، وهذا الاسم هو المشهور في تونس بين أبناء الكتاتيب. وسميت في أكثر المصاحف (سورة القيّمة) وكذلك في بعض التفاسير. وسميت في بعض المصاحف (سورة البيّنة). وذكر في (الإِتقان) أنها سميت في مصحف أبيّ (سورة أهل الكتاب)، أي لقوله تعالى: {لم يكن الذين كفروا من أهل الكتاب} (البينة: 1)، وسميت سورة (البرية) وسميت (سورة الانفكاك). فهذه ستة أسماء. واختلف في أنها مكية أو مدنية قال ابن عطية: الأشهر أنها مكية وهو قول جمهور المفسرين. وعن ابن الزبير وعطاء بن يسار هي مدنية. وعكس القرطبي فنسب القول بأنها مدنية إلى الجمهور وابن عباس والقول بأنها مكية إلى يحيى بن سلام.
اهـ.. فصل في مقصود السورة الكريمة:. قال البقاعي: سورة البينة: سورة الإعلام بأن هذا الكتاب القيم من علو مقداره وجليل آثاره أنه كما أنه لقوم نور وهدى فهو لآخرين وقر وعمى، فيقود إلى الجنة دار الأبرار، ويسوق إلا النار دار الأشقياء الفجار، وعلى ذلك دل كل من أسمائها {الذين كفروا} و {المنفكين} بتأمل الآية في انقسام الناس إلى أهل الشقاوة وأهل السعادة. قال مجد الدين الفيروزابادي:. بصيرة في: {لم يكن الذين كفروا}: السّورة مكِّيّة. آياتها في عدّ البصري سبع، وعند الباقين ثمان. وكلماتها أَربع وسبعون. وحروفها ثلاثمائة وتسع وتسعون. المختلف فيها آية: {مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ}. فواصل آياتها على الهاءِ. ولها اسمان: سورة المنفكِّين: لقوله: {وَالْمُشْرِكِينَ مُنفَكِّينَ} ، وسرة القيِّمة؛ لقوله: {وَذَلِكَ دِينُ القَيِّمَةِ}.. معظم مقصود السّورة: بيان تمرّد أَهل الكتاب، والخبرُ من صحة أَحكام القرآن، وذكر وظيفة الخلق في خدمة الرحمن، والإِشادة بخير البريّة من الإنسان، وجزاء كلّ أحد منهم بحسب الطَّاعة والعصيان، وبيان أَن موعود الخائفين من الله الرّضا والرضوان، في قوله: {ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ}. السّورة محكَّمة.
الآيات القرآنية > 0098 - سورة البينة >
كما في قوله: { حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْر}ِِ [البقرة: 178] ، وقوله: { حَتَّىَ يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، وقوله: { حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [البقرة: 230] ، ونظائر ذلك. والآية تتضمن الإخبار عن وجوب إثبات البينة، وامتناع الانفكاك بدونها. لم يقصد بها مجرد الخبر عن عدم الانفكاك ثم ثبوته في الماضي. وهو كما لو قيل: [لم يكونوا ينفكوا حتى تأتيهم البينة]، لكن هنا ذكر اسم الفاعلين، فقيل: [منفكين]. وهو سبحانه لما ذكر أنه لابد من إرسال الرسل إلى الذين كفروا من المشركين وأهل الكتاب لتقوم عليهم الحجة بذلك، ذكر بعد هذا أن أهل الكتاب الذين آمنوا بالرسل ، ما تفرقوا إلا من بعد ما جاءتهم البينة، وقامت عليهم الحجة. فبينات الله وحجته قامت على هؤلاء وهؤلاء. وهو لم يعذب واحدًا من الحزبين إلا بعد أن جاءتهم البينة، وقامت عليهم الحجة. " انتهى كلامه باختصار من مجموع الفتاوى المجلد السادس عشر Hits: 957