أيها الإخوة: ما أكثر ما نحفظ تعريف التقوى، بل قد يحفظ بعضنا عدة تعاريف لها وللصبر، ويحفظ تقسيمات الصبر، ثم يفشل أحدنا، أو يقع منه تقصير ظاهر في تطبيق هذه المعاني الشرعية كما ينبغي عند وجود المتقضي لها. إنه من يتق ويصبر فإن. ولستُ أعني بذلك العصمة من الذنب، فذلك غير مراد قطعاً، وإنما أقصد أننا نخفق أحياناً ـ إلا من رحم الله ـ في تحقيق التقوى أو الصبر إذا جد الجد، وجاء موجبهما. كلنا ـ أيها الإخوة ـ يحفظ أن التقوى هي فعل أوامر الله، واجتناب نواهيه. وكلنا يدرك أن ذلك يحتاج إلى صبر ومصابرة، وحبس للنفس على مراد الله ورسوله، ولكن الشأن في النجاح في تطبيق هذين المعنيين العظيمين في أوانهما. ولنا أن نتساءل ـ أيها الإخوة ـ هنا عن سر الجمع بين التقوى والصبر في هذه القاعدة القرآنية المحكمة: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} ؟ والجواب: أن ذلك ـ والله أعلم ـ لأن أثر التقوى في فعل المأمور، وأما الصبر فأثره في الأغلب في ترك المنهي(1).
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبدالله، وعلى وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد: فهذه حلقة جديدة من حلقات هذه السلسة المباركة ـ إن شاء الله ـ (قواعد قرآنية) ، نعيش فيها مع قاعدة من القواعد المحكمة في أبواب التعامل مع الخالق سبحانه وتعالى والتعامل مع خلقه، هي قاعدة وملاذٌ لمن تواجه أعمالهم بعدم التقدير، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِين} [يوسف: 90]. وهذه القاعدة جاءت في قصة يوسف عليه الصلاة والسلام، وذلك حين دخل عليه إخوته فقالوا: {يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} [يوسف: 88 - 90].
وقد شرح ابن تيمية كلام الشيخ عبد القادر واستحسنه بقوله: "هذا كلام شريف جامع يحتاج إليه كل أحد، وهو تفصيل لما يحتاج إليه العبد وهي مطابقة لقوله تعالى: { إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}[يوسف: 90] ولقوله تعالى: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا} [آل عمران: 120]. ولقوله تعالى: { وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}[آل عمران: 186] ، فإن التقوى تتضمن فعل المأمور وترك المحظور، والصبر يتضمن الصبر على المقدور، فالثلاثة ترجع إلى هذين الأصليين، والثلاثة في الحقيقة ترجع إلى امتثال الأمر وهو طاعة الله ورسوله"[4]. إنه من يتق ويصبر فإن الله لايضيع. من ثواب التقوى والصبر: ومن جزاء التقوى والصبر الذي كافأ الله به نبيه يوسف عليه السلام تلك الشهرة التي نالها؛ حتى أن سورة في القرآن نزلت باسمه، وصار كل مبتلى يتسلى بها ويستبشر، وهي شهرةٌ يفوز بها كلُّ متَّقٍ صابر، لتكون بعض ثوابه الدنيوي يستأنس به حتى يدرك الأخروي، ومن هؤلاء الأفذاذ الإمام أحمد. قال عبد الوهاب الوراق متحدِّثا عن مشهد من مشاهد علو ذكره وذلك في جنازته: " ما بلغنا أن جمعا في الجاهلية ولا الإسلام مثله -يعني: من شهد الجنازة- حتى بلغنا أن الموضع مسح وحزر على الصحيح، فإذا هو نحو من ألف ألف، وحزرنا على القبور نحوا من ستين ألف امرأة، وفتح الناس أبواب المنازل في الشوارع والدروب، ينادون من أراد الوضوء "[5].
وأما الأذى الثاني: فهو ما تعرض له من ظلم امرأة العزيز، التي ألجأته إلى أن اختار أن يكون محبوساً مسجوناً باختياره. ثم فرق الشيخ: بين صبره على أذى إخوته، وصبره على أذى امرأة العزيز، وقرر أن صبره على الأذى الذي لحقه من امرأة العزيز أعظم من صبره على أذى إخوته؛ لأن صبره على أذى إخوته كان من باب الصبر على المصائب التي لا يكاد يسلم منها أحد، وأما صبره على أذى امرأة العزيز فكان اختيارياً؛ واقترن به التقوى، ولهذا قال يوسف: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}. ثم قال شيخ الإسلام ـ مبيناً اطراد هذه القاعدة القرآنية ـ: {إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ} فقال: "وهكذا إذا أوذي المؤمن على إيمانه، وطلب منه الكفر أو الفسوق أو العصيان ـ وإن لم يفعل أوذي وعوقب ـ اختار الأذى والعقوبة على فراق دينه: إما الحبس وإما الخروج من بلده، كما جرى للمهاجرين حين اختاروا فراق الأوطان على فراق الدين، وكانوا يعذبون ويؤذون.
ما معنى لا يكلف الله نفسا الا وسعها
قوله تعالى: ( فيغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء) رفع الراء والياء أبو جعفر وابن عامر وعاصم ، ويعقوب وجزمهما الآخرون فالرفع على الابتداء والجزم على النسق روى طاووس عن ابن عباس رضي الله عنهما فيغفر لمن يشاء الذنب العظيم ويعذب من يشاء على الذنب الصغير ، " لا يسأل عما يفعل وهم يسألون والله على كل شيء قدير " ( 230 - الأنبياء).
يدل عليه قوله تعالى: " وأخذتم على ذلكم إصري " ( 81 - آل عمران) أي عهدي وقيل: معناه لا تشدد ولا تغلظ الأمر علينا كما شددت على من قبلنا من اليهود وذلك أن الله فرض عليهم خمسين صلاة وأمرهم بأداء ربع أموالهم في الزكاة ومن أصاب ثوبه نجاسة قطعها ومن أصاب ذنبا أصبح وذنبه مكتوب على بابه ونحوها من الأثقال والأغلال وهذا معنى قول عثمان وعطاء ومالك بن أنس وأبي عبيدة ، وجماعة. معني لا يكلف الله نفسا الا وسعها تفسير. يدل عليه قوله تعالى: " ويضع عنهم إصرهم ، والأغلال التي كانت عليهم " ( 157 - الأعراف) وقيل: الإصر ذنب لا توبة له معناه اعصمنا من مثله والأصل فيه العقل والإحكام. قوله تعالى: ( ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به) أي لا تكلفنا من الأعمال ما لا نطيقه وقيل هو حديث النفس والوسوسة حكي عن مكحول أنه قال: هو الغلمة قيل الغلمة شدة الشهوة وعن إبراهيم قال: هو الحب وعن محمد بن عبد الوهاب قال: العشق وقال ابن جريج: هو مسخ القردة والخنازير وقيل هو شماتة الأعداء وقيل: هو الفرقة والقطيعة نعوذ بالله منها. قوله تعالى: ( واعف عنا) أي تجاوز وامح عنا ذنوبنا ( واغفر لنا) استر علينا ذنوبنا ولا تفضحنا ( وارحمنا) فإننا لا ننال العمل إلا بطاعتك ولا نترك معصيتك إلا برحمتك ( أنت مولانا) ناصرنا وحافظنا وولينا ( فانصرنا على القوم الكافرين).
هذه الآية الكريمة يستدل بها البعض لتبرير التهاون في أمر الله تعالى. بينما من معانيها: أن الله تعالى لم يكلفك أيها المسلم بأمر إلا وهو يعلم أنه بمقدورك فعله، فلا تتعذر بعدم القدرة: { أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ} [الملك:14]. لم يكلفك أيها الشاب بغض البصر وحفظ الفرج عن الحرام إلا وهو تعالى يعلم أنك تستطيع ذلك إن استعنت به سبحانه، وما شرع لك ذلك إلا وهو يعلم ما سيكون من فتن. لم يكلفك أيتها الفتاة العزباء التي لم ترزقي بزوج، لم يكلفك بضبط سلوكك واعفاف نفسك إلا وهو يعلم أن ذلك بوسعك. معنى اية لا يكلف الله نفسا الا وسعها - حياتكِ. في بعض التكاليف مشقة، لكن « ومَن يتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللهُ » (صحيح البخاري ؛ برقم: [1469]). و يهدِه ويصلحْ باله. إذن، ليس لنا أن نعذر أنفسنا ونتملص من تكاليف بإمكاننا القيام بها وقد علمنا أنه: { لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} [البقرة من الآية:286].
وقال الآخرون: معنى الآية أن الله عز وجل يحاسب خلقه بجميع ما أبدوا من أعمالهم أو أخفوه ويعاقبهم عليه غير أن معاقبته على ما أخفوه مما لم يعلموه بما يحدث لهم في الدنيا من النوائب والمصائب والأمور التي يحزنون عليها وهذا قول عائشة رضي الله عنها قالت: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية فقال: " يا عائشة هذه معاتبة الله العبد بما يصيبه من الحمى والنكبة حتى الشوكة والبضاعة يضعها في كمه فيفقدها فيروع لها حتى إن المؤمن يخرج من ذنوبه كما يخرج التبر الأحمر من الكير ". أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ، أخبرنا أبو منصور السمعاني أخبرنا أبو جعفر الرياني ، أخبرنا حميد بن زنجويه ، أخبرنا عبد الله بن صالح ، حدثني الليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سعيد بن سنان عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " إذا أراد الله بعبده الخير عجل له العقوبة في الدنيا وإذا أراد الله بعبده الشر أمسك عليه بذنبه حتى يوافيه به يوم القيامة ". [ ص: 356] وقال بعضهم ( وإن تبدوا ما في أنفسكم) يعني ما في قلوبكم مما عزمتم عليه ( أو تخفوه يحاسبكم به الله) ولا تبدوه وأنتم عازمون عليه يحاسبكم به الله فأما ما حدثت به أنفسكم مما لم تعزموا عليه فإن ذلك مما لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولا يؤاخذكم به دليله قوله تعالى " لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم " ( 225 - البقرة).