روي عن وهب بن منبه أنه قال: من أدب الاستماع سكون الجوارح وغض البصر ، والإصغاء بالسمع ، وحضور العقل ، والعزم على العمل ، وذلك هو الاستماع كما يحب الله تعالى ؛ وهو أن يكف العبد جوارحه ، ولا يشغلها. فيشتغل قلبه عما يسمع ، ويغض طرفه فلا يلهو قلبه بما يرى ، ويحصر عقله فلا يحدث نفسه بشيء سوى ما يستمع إليه ، ويعزم على أن يفهم فيعمل بما يفهم. " وأنا اخترتك فاستمع لما يوحى ". وقال سفيان بن عيينة أول العلم الاستماع ، ثم الفهم ، ثم الحفظ ، ثم العمل ، ثم النشر ؛ فإذا استمع العبد إلى كتاب الله تعالى وسنة نبيه - عليه الصلاة والسلام - بنية صادقة على ما يحب الله أفهمه كما يحب ، وجعل له في قلبه نورا. ﴿ تفسير الطبري ﴾ القول في تأويل قوله تعالى: وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13)اختلفت القرّاء في قراءة ذلك، فقرأته عامة القرّاء الذين قرءوا " وأنَّا " بتشديد النون، و (أنا) بفتح الألف من " أنا " ردّا على: نودي يا موسى، كأن معنى الكلام عندهم: نودي يا موسى إني أنا ربك، وأنا اخترتك، وبهذه القراءة قرأ ذلك عامَّة قرّاء الكوفة. وأما عامة قرّاء المدينة والبصرة وبعض أهل الكوفة فقرءوه: (وأنا اخْتَرْتُكَ) بتخفيف النون على وجه الخبر من الله عن نفسه أنه اختاره.
المسألة الرابعة: أنه سبحانه بعد أن أمره بالتوحيد أولا ثم بالعبادة ثانيا أمره بالصلاة ثالثا ؛ احتج أصحابنا بهذه الآية على أن تأخير البيان عن وقت الحاجة جائز من وجهين: الأول: أنه أمره بالعبادة ولم يذكر كيفية تلك العبادة فثبت أنه يجوز ورود المجمل منفكا عن البيان. الثاني: أنه قال: ( وأقم الصلاة لذكري) ولم يبين كيفية الصلاة ، قال: القاضي لا يمتنع أن موسى - عليه السلام - قد عرف الصلاة التي تعبد الله تعالى بها شعيبا - عليه السلام - وغيره من الأنبياء فصار الخطاب متوجها إلى ذلك ويحتمل أنه تعالى بين له في الحال ، وإن كان المنقول في القرآن لم يذكر فيه إلا هذا القدر. والجواب: أما العذر الأول فإنه لا يتوجه في قوله تعالى: ( فاعبدني) وأيضا فحمل مثل هذا الخطاب العظيم على فائدة جديدة أولى من حمله على أمر معلوم ؛ لأن موسى - عليه السلام - ما كان يشك في وجوب الصلاة التي جاء بها شعيب - عليه السلام - فلو حملنا قوله: ( وأقم الصلاة) على ذلك لم يحصل من هذا الخطاب العظيم فائدة زائدة ، أما لو حملناه على صلاة أخرى لحصلت الفائدة الزائدة ، قوله: لعل الله تعالى بينه في ذلك الموضع وإن لم يحكه في القرآن قلنا لا شك أن البيان أكثر فائدة من المجمل فلو كان مذكورا لكان أولى بالحكاية.
قال: لأني لم يتواضع لي أحد تواضعك. وقوله: ( فاستمع لما يوحى) أي: اسمع الآن ما أقول لك وأوحيه إليك ﴿ تفسير القرطبي ﴾ قوله تعالى: وأنا اخترتك أي اصطفيتك للرسالة. وقرأ أهل المدينة وأبو عمرو وعاصم والكسائي ( وأنا اخترتك). وقرأ حمزة ( وأنا اخترناك). والمعنى واحد إلا أن وأنا اخترتك هاهنا أولى من جهتين: إحداهما أنها أشبه بالخط ، والثانية أنها أولى بنسق الكلام ؛ لقوله - عز وجل -: يا موسى إني أنا ربك فاخلع نعليك وعلى هذا النسق جرت المخاطبة ؛ قاله النحاس. قوله تعالى: فاستمع لما يوحى فيه مسألة واحدة: قال ابن عطية: وحدثني أبي - رحمه الله - قال: سمعت أبا الفضل الجوهري رحمه الله تعالى يقول: لما قيل لموسى صلوات الله وسلامه عليه: فاستمع لما يوحى وقف على حجر ، واستند إلى حجر ، ووضع يمينه على شماله ، وألقى ذقنه على صدره ، ووقف يستمع ، وكان كل لباسه صوفا. قلت: حسن الاستماع كما يجب قد مدح الله عليه فقال: الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله وذم على خلاف هذا الوصف فقال: نحن أعلم بما يستمعون به الآية. فمدح المنصت لاستماع كلامه مع حضور العقل ، وأمر عباده بذلك أدبا لهم ، فقال: وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون وقال هاهنا: فاستمع لما يوحى لأن بذلك ينال الفهم عن الله تعالى.
وفي قوله: ﴿لِذِكْرِي﴾ دلالة بينة على صحة ما قال مجاهد في تأويل ذلك، ولو كانت القراءة التي ذكرناها عن الزهري قراءة مستفيضة في قراءة الأمصار، كان صحيحا تأويل من تأوّله بمعنى: أقم الصلاة حين تذكرها، وذلك أن الزهري وجَّه بقراءته ﴿وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي﴾ بالألف لا بالإضافة، إلى أقم لذكراها، لأن الهاء والألف حذفتا، وهما مرادتان في الكلام ليوفق بينها وبين سائر رءوس الآيات، إذ كانت بالألف والفتح. ولو قال قائل في قراءة الزهري هذه التي ذكرنا عنه، إنما قصد الزهري بفتحها تصييره الإضافة ألفا للتوفيق بينه وبين رءوس الآيات قبله وبعده، لأنه خالف بقراءته ذلك كذلك من قرأه بالإضافة، وقال: إنما ذلك كقول الشاعر: أُطَوّفُ ما أُطَوّفُ ثُمَّ آوي... إلى [[في الأصل: إذ، ولعله تحريف عن " إلى ". ]] أمَّا وَيُرْوِيني النَّقِيعُ [[البيت من شواهد الفراء في معاني القرآن (مصور الجامعة ص ١٩٦) قال: والعرب تقول: بيتًا وأما، يريدون: بأبي وأمي ومثله (يا ويلتا أعجزت) وإن شئت جعلتها يا إضافة، وإن شئت يا ندبة. أه. والنقيع والنقيعة: المحض من اللبن يبرد، قال ابن بري: شاده قول الشاعر: ".. ويكفين النقيع ". ]] وهو يريد: إلى أمي، وكقول العرب: يا أبا وأما، وهي تريد: يا أبي وأمي، كان له بذلك مقال.