وأما مسألة ما قد يترتب على التحديث بمثل هذا الحديث من الفتن، فهذا إن حصل فلا يتحمله من حدث به على وجهه؛ إذ إنه فعل ما أمر به من البلاغ عن الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وإلا فبعض آيات القرآن قد استشكلها أعداء الإسلام وزادتهم كفرا على كفرهم، كما قال تعالى: وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {المائدة: 68} ومع ذلك فينبغي لمن حدث بمثل ذلك أن يبين فقهه بما يزيل اللبس والشبهة عن أذهان المستمعين، ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة. فإن قصر في ذلك كان مسيئا. والله أعلم.
وإن همّ بالمنكر وعزم عليه وشرع في فعله ، أو سعى في تحصيله ، لكن لم يتمكن منه ، لأمر خارج عنه ، فهو مأزور غير مأجور ، كما دل عليه حديث: ( إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ ، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ، هَذَا الْقَاتِلُ فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ ؟ قَالَ: إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ) رواه البخاري (31) ومسلم (2888). قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: " وبهذا ينفصل النزاع في مؤاخذة العبد بالهمة ، فمن الناس من قال: يؤاخذ بها إذا كانت عزما ، ومنهم من قال: لا يؤاخذ بها ، والتحقيق أن الهمة إذا صارت عزما فلابد أن يقترن بها قول أو فعل ؛ فإن الإرادة مع القدرة تستلزم وجود المقدور. والذين قالوا يؤاخذ بها احتجوا بقوله: ( إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول فى النار) الحديث ، وهذا لا حجة فيه [أي على المؤاخذة بمجرد الهم]؛ فإنه ذكر ذلك في رجلين اقتتلا كل منهما يريد قتل الآخر وهذا ليس عزما مجردا ، بل هو عزم مع فعل المقدور لكنه عاجز عن إتمام مراده ، وهذا يؤاخذ باتفاق المسلمين ، فمن اجتهد على شرب الخمر وسعى في ذلك بقوله وعمله ، ثم عجز فإنه آثم باتفاق المسلمين ، وهو كالشارب وإن لم يقع منه شرب.
عن أبي أمامة قال: إن فتىً شاباً أتى النبي فقال: يا رسول اللَّه، ائذن لي بالزنا، فأقبل القوم عليه فزجروه، وقالوا لـه: مه مه! فقال لـه: (( ادنه))، فدنا منه قريباً، قال: (( أتحبه لأمك ؟)) قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداءك، قال: (( ولا الناس يحبونه لأمهاتهم)). قال: (( أفتحبه لابنتك ؟)) قال: لا واللَّه يا رسول اللَّه، جعلني اللَّه فداءك. قال: (( ولا الناس يحبونه لبناتهم)). قال: (( أفتحبه لأختك ؟)) قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداءك. قال: (( ولا الناس يحبونه لأخواتهم)). قال: (( أفتحبه لعمتك ؟)) قال: لا واللَّه، جعلني اللَّه فداءك. الزنا. قال: (( ولا الناس يحبونه لعماتهم)). قال: (( أفتحبه لخالتك ؟)) قال: لا واللَّه جعلني اللَّه فداءك. قال: (( ولا الناس يحبونه لخالاتهم)). قال: فوضع يده عليه، وقال: (( اللَّهم اغفر ذنبه، وطهر قلبه، وحصّن فرجه))، فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء ( [1]). وهذا الموقف العظيم مما يؤكد على الدعاة إلى اللَّه أن يعتنوا بالرفق والإحسان إلى الناس، ولاسيما من يُرغَبُ في استئلافهم ليدخلوا في الإسلام، أو ليزيد إيمانهم ويثبتوا على إسلامهم. وكما بين لنا الرسول الرّفق بفعله بينه لنا بقوله، وأمرنا بالرفق في الأمر كله.
غض البصر عما حرم الله وكف الأذى، سواء كان باللسان، أو كان ذلك بالفعل، أو بأي طريق كان الأذى، يؤذي الناس، يؤذيهم، يتكلم في أعراضهم، أو يشتم هذا، أو يصدر عبارات تدل على سخرية، أو استفزاز لهؤلاء المارة، أو لربما يتصرف بصرفات تدل على سخرية، يعني بعض الناس يشمت بالمارة. يعني وجد مثلاً من يربط شيئًا من النقود بسلك لا لون له، سلك السنارة، ويلقيه، يضع خمسمائة ريال في الطريق، وهو جالس عند حانوت، دكان، ويمر الناس في هذا الطريق، في السوق، فكل ما جاء أحد، وأراد أن يهوي إليه ليأخذ هذا المال، سحبه، فيضحك، ويضحك من معه ممن جلسوا في هذا المكان، هذا لا يجوز، لا يجوز للإنسان أن يتخذ الناس شماتة، وموسى لما قال له بنو إسرائيل: أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِين فدل على أن الذي يسخر بالناس، ويستهزئ بهم أنه من الجاهلين، هذه ليست من أوصاف أصحاب العقول الكاملة، هذا سفه. فالشاهد: أن الأذى بجميع أنواعه، ورد السلام؛ لأنه واجب، قال: والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإذا رأى شيئًا غيره، وهذا الإنكار قد يكون باليد إذا كان يستطيع ذلك، ولا يترتب عليه مفسدة أعلى منه، وقد يكون هذا التغيير باللسان، وقد يكون هذا التغيير بالقلب، وإن كان بالقلب فيما يعجز عنه باليد، أو اللسان فإن ذلك يقتضي مفارقة المنكر، ما يجلس في مكان، والمنكر أمامه، ثم يقول: أنا أنكر بقلبي.
فهذا أشد بلا ريب، والعجب أن عامة من ينشر ذلك بين المسلمين هم من المسلمين أنفسهم، وما علموا أنهم بذلك يحاربون الله تعالى، ويبارزونه بالإفساد.
أبو أمامة الباهلي | المحدث: الوادعي | المصدر: الصحيح المسند الصفحة أو الرقم: 501 | خلاصة حكم المحدث: صحيح دَعوةُ النَّاسِ فُرادَى وجَماعاتٍ إلى دِينِ اللهِ عزَّ وجلَّ وشرائعِه يَنبغي أنْ تكونَ بالحِكمةِ والموعظةِ الحَسنةِ، كما قال اللهُ تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} [النحل: 125]. وفي هذا الحَديثِ يَقولُ أبو أُمامةَ رَضيَ اللهُ عنه: إنَّ فتًى شابًّا حديثَ السِّنِّ مَوفورَ الشَّهوةِ جاء النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فقال: «يا رسولَ اللهِ، ائذَنْ لي بالزِّنَا» فطلَب مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُحِلَّ له الزِّنا! فصاحَ النَّاسُ بهذا الشابِّ، وأقبَلَ القومُ عليه فزَجَروه، أي: قاموا إليه لِيَنْهَوه عن سؤالِه العَجيبِ هذا وطَلبِه مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُحِلَّ له الفاحِشةَ، «وقالوا: مَهْ! حديث الرسول عن الزنا pdf. مَهْ!
[٤] وكانت هذه الآيةُ ناسخةً لآيةِ عقوبتي الحبسِ والإيذاء اللتين سبقتاها في سورة النِّساء، فيما تُعاقَبُ المملوكةُ بنفس حدِّ الحرَّةِ تحقيقاً لما ورد في سورة النِّساء في حدِّ الأمة، (قال تعالى: فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ).