وجرجس هذا كان جاره الذى اعتاد هو على إيقاظه معه فى طريقه للمسجد، رافعاً الآذان للصلاة الأولى. ولئن أهل تلك القرية قديمًا اعتادوا -على اختلاف عقائدهم- أن يتشاركوا كل شئ، وإن توقف التشارك هذا الآن، ليس لضغينة ما لا سمح الله، بل لم يعد فى الأنفس شئٌ باقى لم يتشاركاه بعد. لذا هم تشاركوا قطعة أرض، كانت تلك فى منتصف القرية, أقتسماها، بنى فريق فى شمالها كنيسةً والآخر فى يمينها بنى مسجداً، منذ ذلك الحين اعتاد هو لفقده البصر -وليس هذا هو التعليل الصحيح بالنسبة له- أن يصطحب جاره جرجس الذى يعول بدوره الكنيسة المجاورة لمسجده، ويذهب فجراً معه ليرن جرس الكنيسة معلنا بدء الصلاة. حي علي الصلاه حي علي الفلاح. لسنوات سارا معاً فى ذلك الطريق من منزليهما فى طرف القرية حتى البقعة المقدسة فى قلب القرية، تجاذبا أطراف الحديث حتى لفّيا الحديثَ كله على أطرافهم، تهامسا فى كل شئ حتى فاض الجو بهمسهم، إلا أن فى ذلك الفجر شد هو بقوة على كتف جرجس، وبعد أن أنتزع كحات ثقيلة بدت وكأنها خارجة من مقبرة أمتلئت بمشيعيين جنازة أحدهم للتو، قال: حاسس أنى بودع يا مقدس جرجس، بس أنا مش خايف من الموت، بس مين اللى هيآذن من بعدى، من اللى هيدعوا الناس للصلاة. كانت تلك جملة إعتيادية فى حواره، يقولها فى كل فجر، حتى لظن جرجس أنها فاتحة كلام ولا أكثر، لذا يردف جرجس بابتسامة وديعة مثل شخصه: انا موجود.
إقامة صلاة يرجى بعد الوفاء بشروطها ظاهرا وباطنا أن تفضي لـمُخرجاتٍ إيمانيةٍ تقوي صلة العبد بربه من جهة، وتضبط سلوكه مع عباد الله وسائر خلقه، من جهة ثانية. يقول الحق سبحانه في خاتمة سورة "العنكبوت": اُتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ. معنى حي على الصلاة. ومما ورد في تفسير الإمام القرطبي لهذه الآية الكريمة قول ابن عباس رضي الله تعالى عنه: "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بصلاته من الله إلا بُعدا". إنه لا انفصال بين الصلاة، بل وسائر التكاليف الشرعية، وبين الحالة السلوكية للمؤمن والـمؤمنة، ففي شأن الـصيام جاء التحذير النبوي في أبلغ عبارة. عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ". وفي شأن الحج يقول سبحانه في سورة "البقرة": فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ. وحيث إنه لكل أمر ذي بال منتهى وغاية، وجب أن تـرفع الصلاةُ -بما هي وقوف بين يدي الله تعالى، وبوابة لـمناجاته، ومؤشرا من خلال الركوع والسجود على الاستسلام والـخـضـوع والتذلل له- منسوبَ الاستقامة سلوكا، والمروءةَ موقفا؛ استقامةٌ تتـرجم فضائل ومحامد خلقية مع عموم خلق الله، والأقربين أولى؛ ومروءةٌ وشهامةٌ في المواقف أمرا بالمعروف، ونهيا عن المنكر، ونصرة للحق وأهله، واصطفافا مع المستضعفين تهمما بالأحوال ومنافحة على الحقوق وأسباب الحياة الكريمة للناس.
ثم نقضي السنوات بعد السنوات من ذلك الزمن المقبل ونحن نتعزى من حيرة الطفولة بأننا ما نزال حائرين، وإن سُمِّيت الحيرة بأسماء بعد أسماء، وأطلق عليها عنوان بعد عنوان. وفي الذكريات أصداء تكمن في النفس من بعيد، ويلتفت المرء لحظةً من اللحظات، فكأنما هو قد فرغ من سماع تلك الأصداء منذ هنيهة عابرة، ثم التفت على حين غرة؛ ليرقب مصدر ذلك الصدى الذي سرى إليه. حى على الصلاة - ديوان العرب. إن أبقى هذه الأصداء في كل ذاكرة لهي صيحة الأذان الأولى التي تنبهت إليها آذان الطفولة لأول مرة، وما تزال تبتعد في وادي الذاكرة، ثم تنثني إليه من بعض ثنياتها القريبة، فإذا المرء من طفولته الباكرة على مدى وثبة مستطاعة لو تستطاع وثبة إلى ماض بعيد أو قريب. تأثر المستشرقين: أما الغرباء عن البلاد وعن عقيدة الإسلام فما يلفتهم من شيء من شعائر العبادة الإسلامية كما يلفتهم صوت الأذان على المنائر العالية كيفما اختلف الترتيل والتنغيم. يقول إدوارد وليام لين صاحب كتاب أحوال المُحْدَثين وعاداتهم: إن أصوات الأذان أخَّاذة جدَّاً ولاسيما في هدأة الليل.
ثم يستطرد قائلا: "ولعله يسمع في المرة الأخيرة عند نهاية التنغيم كلمات مقنَّعة بالأسرار جديدة على أذنيه، فإذا سأل عنها ترجمانه كما فعل جيراردي نرفال أجابه ولا شك بتفسير كذلك التفسير: يا من تنام توكل على الحي الذي لا ينام. كم عدد حي على الصلاة في الأذان. عظات جليلة تعيد إلى الذاكرة تلك الآيات التي ينقشونها في المشرق على بعض الحجارة الكريمة ومنها [ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلا نَوْمٌ]، فإن كان الترجمان ممن يعون طرفاً من تاريخ الإسلام فلعله ينبئه أن المؤذن الأول أول من رتل الدعاء إلى الصلاة كان الخادم المقدس الذي اصطفاه نبي الإسلام لهذه الدعوة، بلال بن رباح، صاحب الضريح الذي يشار إليه للسائح في ناحية من دمشق حتى هذا اليوم ". وقد لمسنا نحن آثار الأذان البالغ في رُوْع كثير من السائحين والسائحات الذين ينزلون ببلدتنا أسوان خلال الشتاء، أو يمرون بها في الطريق من السودان وإليه. فإنهم كانوا يَصِلون إلى أسوان وقد سمعوا الأذان مرات في القاهرة والاسكندرية، وربما سمعوه في غيرهما من البلدان الإسلامية ولكنه كان يفاجئهم بجدة لا تبلى كلما طرق أسماعهم بالليل أو النهار ولاسيما في أيام الجمعة. وكان من المصادفات الطيبة أن مؤذن الجامع الأكبر بالمدينة كان حسن الصوت منطلق الدعاء يمزج الغيرة الدينية بالغيرة الفنية في أذانه، فكان يخيل إلينا وهم يصغون إليه أنهم يتسمعون هاتفاً من هواتف الغيب يطرق الأسماع في وقت رتيب، أو يترقبون طائراً من طوائر الهجرة التي تأتي في الأوان ولكن كما يأتي كل شيء غريب.
فيا عبدَ الله: يا مَن فقدناه في المسجد حينًا، يا مَن تخلَّف عن الصلوات، ألَم يَأْنِ لك أن تندمَ على ما مضى من السيِّئات؟! حَيَّ على الصلاة. ألَم يحزنْ قلبك على تركك الصَّلوات؟! إلى متى وأنت صريع الخطيئات، تتخطَّفك الأهواءُ والشهوات، وكأنَّك بمَعْزِل عن نظر بارئِ الأرض والسموات، أو كأنَّك معصومٌ من قدوم هادم اللذَّات، ومُفرِّق الجماعات؟! يا تاركَ الصلواتِ، ويا هاجرَ الجُُمُعِ والجماعات، أَرْعِني سمعَك، وقبل ذلك فؤادَك؛ لتستمعَ إلى هذا الحديث الذي أخرجه الإمام مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: أتى النبيَّ - صلَّى الله عليه وسلَّم - رجلٌ أعمى، فقال: يا رسولَ الله، إنَّه ليس لي قائدٌ يقودني إلى المسجد، فسأل رسولَ الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - أن يُرخِّصَ له فيصلِّي في بيته، فرخَّص له، فلمَّا ولَّى دَعَاه، فقال: ((هل تسمعُ النِّداءَ بالصلاة؟))، قال: نعم، قال: ((فأجبْ)).