ثم ذكر الوالدين لوجوب برهما وعظم قدرهما ، ثم ثنى بالأقربين إذ هم مظنة المودة والتعصب ؛ فكان الأجنبي من الناس أحرى أن يقام عليه بالقسط ويشهد عليه ، فجاء الكلام في السورة في حفظ حقوق الخلق في الأموال. الثانية: لا خلاف بين أهل العلم في صحة أحكام هذه الآية ، وأن شهادة الولد على الوالدين الأب والأم ماضية ، ولا يمنع ذلك من برهما ، بل من برهما أن يشهد عليهما ويخلصهما من الباطل ، وهو معنى قوله تعالى: قوا أنفسكم وأهليكم نارا فإن شهد لهما أو شهدا له وهي: الثالثة: فقد اختلف فيها قديما وحديثا ؛ فقال ابن شهاب الزهري: كان من مضى من السلف الصالح يجيزون شهادة الوالدين والأخ ، ويتأولون في ذلك قول الله تعالى: كونوا قوامين بالقسط شهداء لله فلم يكن أحد يتهم في ذلك من السلف الصالح رضوان الله عليهم. كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو. ثم ظهرت من الناس أمور حملت الولاة على اتهامهم ، فتركت شهادة من يتهم ، وصار ذلك لا يجوز في الولد والوالد والأخ والزوج والزوجة ، وهو مذهب الحسن والنخعي والشعبي وشريح ومالك والثوري والشافعي وابن حنبل. وقد أجاز قوم شهادة بعضهم لبعض إذا كانوا عدولا. وروي عن عمر بن الخطاب أنه أجازه ؛ وكذلك روي عن عمر بن عبد العزيز ، وبه قال إسحاق والثوري والمزني.
إضاءة: لما أمر الله تعالى المؤمنين في الآية السابقة بأن يكونوا قوامين بالقسط، شهداء لله، أمرهم هنا بما هو جامع لمعاني القيام بالقسط والشهادة لله وبَيَّن أنه لا يتصف بذلك إلا من كان راسخ القَدَم في الإيمان بالأشياء المذكورة في الآية فأمر بها. يا ايها الذين امنوا كونوا قوامين بالقسط. السؤال: لماذا قُدِّم ذِكْر الرسول على ذِكْر الكتاب في قوله تعالى: (آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزل على رسوله؟ ولِمَ عكس ذلك عند الحديث عن مراتب الكفر في قوله تعالى: (ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله... ) (النساء: 136)؟ الجواب: الترتيب في الآية الكريمة بناء على الترتيب الوجودي واللقائي، بيان ذلك أن في مرتبة النزول من معرفة الخالق إلى الخلق يكون الكتاب مقدماً على الرسول، فالكتاب ينزل أولا بواسطة الملك ثم يتلقاه الرسول منه وفي مرتبة العروج من الخلق إلى الخالق يكون الرسول مقدماً على الكتاب. قدم ذكر الرسول على ذكر الكتاب في جانب مراتب الإيمان، لأن الرسول أول ما يباشره المؤمن، ثم يتلقى الكتاب منه. مراتب الإيمان والكفر السؤال: لِمَ ذُكِر في مراتب الإيمان أمور ثلاثة: الإيمان بالله وبالرسول وبالكتاب؟ وذكر في مراتب الكفر أمور خمسة بزيادة الكفر بالملائكة واليوم الآخر في الآية الكريمة؟ الجواب: لأن الإيمان بالله وبالرسول وبالكتاب متى حصل فقد حصل الإيمان بالملائكة واليوم الآخر لا محالة، ولما كان احتمال ادعاء إنسان أنه يؤمن بالله وبالرسول والكتاب ثم ينكر الملائكة واليوم الآخر، لمَّا كان ادعاء ذلك قائما نص على أن منكر الملائكة ومنكر القيامة كافر بالله.
أما آية المائدة فهي واردة بعد التذكير بميثاق الله، فكان المقام الأول للحض على (القيام لله) أي: الوفاء له بعهودهم له؛ ولذلك عدي قوله: { قوامين} بـ (اللام) وإذ كان العهد شهادة، أتبع قوله: { قوامين لله} بقوله: { شهداء بالقسط} أي: شهداء بالعدل، شهادة لا حيف فيها، وأولى شهادة بذلك شهادتهم لله تعالى. وقد حصل من مجموع الآيتين: وجوب القيام بالعدل، والشهادة به، ووجوب القيام لله، والشهادة له. كونوا قوامين بالقسط شهداء لله. والمتحصل أن سياق كلٍّ من الآيتين، إضافة إلى موضوعهما، هو الذي اقتضى التقديم والتأخير، ومجيء كلٍّ من الآيتين بحسب ما جاءت عليه. هذا ما يذكره أهل العلم. ولله الأمر من قبل ومن بعد.
المسألة الثانية عشرة: قال بعض أهل العلم: "قوله تعالى: { ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين} فسوى بين (الأقربين) و(الأبوين) في الأمر بالحق، والوصية بالعدل، وإن تفاضلوا في الدرجة؛ كما سوى بين الخلق أجمعين، وإن تفاضلوا أيضاً في الدرجة، وكأنه سبحانه يقول: لا تلتفتوا في الرحم قَرُبَتْ أو بَعُدَتْ في الحق، كونوا معه عليها، ولولا خوف العدل عنه لها لما خصوا بالوصية بها".