ثم بين سبحانه أن ما يصاب به العباد من المصائب قد سبق بذلك قضاؤه وقدره وثبت في أم الكتاب فقال: 22- "ما أصاب من مصيبة في الأرض" من قحط مطر وضعف نبات ونقص ثمار. قال مقاتل: القحط وقلة النبات والثمار، وقيل الجوائح في الزرع "ولا في أنفسكم" قال قتادة: بالأوصاب والأسقام. وقال مقاتل: إقامة الحدود. آيات قرآنية عن الرضا بالقضاء والقدر - موضوع. وقال ابن جريح: ضيق المعاش "إلا في كتاب" في محل نصب على الحال من مصيبة: أي إلا حال كونها مكتوبة في كتاب، وهو اللوح المحفوظ، وجملة "من قبل أن نبرأها" في محل جر صفة لكتاب، والضمير في نبرأها عائد إلى المصيبة، أو إلى الأنفس، أو إلى الأرض، أو إلى جميع ذلك، ومعنى نبرأها نخلقها "إن ذلك على الله يسير" أي أن إثباتها في الكتاب على كثرته على الله يسير غير عسير. قوله عز وجل: 22- "ما أصاب من مصيبة في الأرض"، يعني: قحط المطر، وقلة النبات، ونقص الثمار، "ولا في أنفسكم"، يعني: الأمراض وفقد الأولاد، "إلا في كتاب"، يعني: اللوح المحفوظ، "من قبل أن نبرأها"، من قبل أن نخلق الأرض والأنفس. قال ابن عباس: من قبل أن نبرأ المصيبة. وقال أبو العالية: يعني النسمة، "إن ذلك على الله يسير"، أي إثبات ذلك على كثرته هين على الله عز وجل. 22-" ما أصاب من مصيبة في الأرض " كجدب وعاهة. "
لِّكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَىٰ مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) يعني تعالى ذكره: ما أصابكم أيها الناس من مصيبة في أموالكم ولا في أنفسكم، إلا في كتاب قد كتب ذلك فيه، من قبل أن نخلق نفوسكم (لِكَيْلا تَأْسَوا) يقول: لكيلا تحزنوا، (عَلَى مَا فَاتَكُمْ) من الدنيا، فلم تدركوه منها، (وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) منها. ومعنى قوله: (بِمَا آتَاكُمْ) إذا مدّت الألف منها: بالذي أعطاكم منها ربكم وملَّككم وخوَّلكم؛ وإذا قُصرت الألف، فمعناها: بالذي جاءكم منها. وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. * ذكر من قال ذلك: حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس (لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فاتكم) من الدنيا، (وَلا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ) منها. حُدثت عن الحسين بن يزيد الطحان، قال: ثنا إسحاق بن منصور، عن قيس، عن سماك، عن عكرِمة، عن ابن عباس (لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فاتكم) قال: الصبر عند المصيبة، والشكر عند النعمة. إسلام ويب - تفسير الطبري - تفسير سورة الحديد - القول في تأويل قوله تعالى " ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها "- الجزء رقم23. حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن سماك البكري، عن عكرمة، عن ابن عباس (لِكَيْ لا تَأْسَوْا عَلَى مَا فاتكم) قال: ليس أحد إلا يحزن ويفرح، ولكن من أصابته مصيبة فجعلها صبرا، ومن أصابه خير فجعله شكرا.
(ذكره الماتريدي*, وابن عاشور*) القول الثالث: أنه يعود على المصيبة أي: من قبل أن نخلق المصيبة. (رجحه الماتريدي*) (وذكره الزمخشري* وابن كثير*) (وذكر الأقوال الثلاثة دون ترجيح البغوي*, وابن عطية*, والقرطبي*) (وذكر الأقوال الثلاثة الرازي*, ومال إلى الثالث فقال: "والكل محتمل لأن ذكر الكل قد تقدم، وإن كان الأقرب نفس المصيبة لأنها هي المقصود"). وقيل: الضمير يعود على الجميع. قال ابن عطية: "وهي كلها معان صحاح، لأن الكتاب السابق أزلي قبل هذه كلها". وقال القرطبي: " يحتمل أن يعود على الجميع ". وقيل: "قبل خلق الأرض وقبل خلق الأنفس". القول الرابع: أنه يعود على الخليقة. وهو أمر معلوم وإن لم يتقدم له ذكر. (ذكره الرازي*) (ورجحه ابن كثير*) قال الرازي: "وقال آخرون: المراد من قبل أن نبرأ المخلوقات، والمخلوقات وإن لم يتقدم ذكرها إلا أنها لظهورها يجوز عود الضمير إليها كما في قوله: (إنا أنزلناه)". وقال ابن كثير: "الأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها". قلت: هذا القول جيد قوي, ويدخل فيه كل الأقوال. القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة الحديد - الآية 22. ورجوع الضمير إلى غير مذكور لظهوره له نظائر في القرآن, كقوله تعالى: {حتى توارت بالحجاب} يعني: الشمس.
حدثنا ابن عبد الأعلى، قال: ثنا ابن ثور، عن معمر، عن قتادة، في قوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ) قال: هي السنون، (وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ) قال: الأوجاع والأمراض. قال: وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خَدْش عود، ولا نَكْبة قدم، ولا خَلجَانُ عِرْقٍ إلا بذنب، وما يعفو عنه أكثر. حدثني يعقوب، قال: ثنا ابن علية، عن منصور بن عبد الرحمن، قال: كنت جالسا مع الحسن، فقال رجل: سله عن قوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) ، فسألته عنها، فقال: سبحان الله، ومن يشكّ في هذا؟ كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن تبرأ النسمة. حُدثت عن الحسين، قال: سمعت أبا معاذ يقول: ثنا عبيد، قال: سمعت الضحاك يقول في قوله: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) يقول: هو شيء قد فرغ منه، (من قبل أن نبرأها): من قبل أن نبرأ الأنفس. حدثني يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال، قال ابن زيد في قول الله جلّ ثناؤه (فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا) قال: من قبل أن نخلقها، قال: المصائب والرزق والأشياء كلها مما تحبّ وتكره فرغ الله من ذلك كله، قبل أن يبرأ النفوس ويخلقها.
وهذه الآية الكريمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق - قبحهم الله - وقال الإمام أحمد: حدثنا أبو عبد الرحمن ، حدثنا حيوة ، وابن لهيعة قالا حدثنا أبو هانئ الخولاني: أنه سمع أبا عبد الرحمن الحبلي يقول: سمعت عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: " قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ". ورواه مسلم في صحيحه ، من حديث عبد الله بن وهب ، وحيوة بن شريح ، ونافع بن يزيد ، وثلاثتهم عن أبي هانئ به. وزاد بن وهب: " وكان عرشه على الماء ". ورواه الترمذي وقال: حسن صحيح وقوله: ( إن ذلك على الله يسير) أي: أن علمه تعالى الأشياء قبل كونها ، وكتابته لها طبق ما يوجد في حينها سهل على الله ، عز وجل; لأنه يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون.
وقد علق الله تعالى هداية القلب على الإيمان؛ وذلك لأن الأصل في المؤمن أن يروضه الإيمان على تلقي المصائب، واتباع ما يأمره الشرع به من البعد عن الجزع والهلع، متفكراً في أن هذه الحياة لا تخلوا من منغصات ومكدرات وفي قوله تعالى: {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} إيماءً إلى الأمر بالثبات والصبر عند حلول المصائب؛ لأنه يلزم من هَدْيِ الله قلبَ المؤمن عند المصيبة ، وفيه ترغيبَ المؤمنين في الثبات والتصبر عند حلول المصائب، فلذلك جاء ختم هذه الآية بجملة: {وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}.
أيها المسلمون فكل ما أصاب الانسان فهو بقضاء الله وقدره، وأن ذلك بعلمه وإذنه القدري سبحانه وتعالى، وجرى به القلم، ونفذت به المشيئة، واقتضته الحكمة، والشأن كل الشأن، هل يقوم العبد بما يجب عليه من عبودية الصبر والتسليم ـ الواجبين ـ، ثم الرضا عن الله تعالى؟ ومن أعظم ما يعين على تلقي هذه المصائب بهدوء وطمأنينة: الإيمان القوي برب العالمين، والرضا عن الله تعالى، بحيث لا يتردد المؤمن ـ وهو يعيش المصيبة ـ بأن اختيار الله خير من اختياره لنفسه، وأن العاقبة الطيبة ستكون له ـ ما دام مؤمناً حقاً ـ فإن الله تعالى ليس له حاجة لا في طاعة العباد، ولا في ابتلائهم!