نتوقف اليوم أمام سورة أخرى اخترت أن نتأمل معانيها ونطبقها على واقعنا المعاصر وهي سورة الحجرات. وهي سورة مدنية نزلت في المدينة المنورة وهي ثماني عشرة آية يقول تعالى (يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله ورسوله واتقوا الله إن الله سميع عليم) (1) (يا أيها الذين آمنوا) تصدير لخطاب بالنداء لتنبيه المخاطبين على أن ما في حيزه أمر خطير يستدعي مزيد اعتنائهم عليه ووازع عن الإخلال به (لا تقدموا) أي لا تفعلوا التقديم بحق المقام لإفادته النهي عن التلبس بنفس الفعل الموجب لانتفائه بالكلية المستلزم لانتفاء تعلقه بمفعوله بالطريق البرهاني. وقوله تعالى (بين يدي الله ورسوله) تهجينا لما نهوا عنه والمعنى لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به وقيل المراد بين يدي رسول الله وذكر الله تعالى لتعظيمه والإيذان بجلالة محله عنده عز وجل، قيل نزل فيما جرى بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما لدى النبي صلى الله عليه وسلم في تأمير الأقرع بن حابس أو القعقاع بن معبد (واتقوا الله) في كل ما تأتون وما تذرون من الأقوال والأفعال التي في جملتها ما نحن فيه (إن الله سميع) لأقوالكم (عليم) بأفعالكم فمن حقه أن يتقي ويراقب.
رواه البخاري (5063) ومسلم (1401). 2) عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إن الله لا يقبض العلم انتزاعا ينتزعه من العباد، ولكن يقبض العلم بقبض العلماء، حتى إذا لم يُبقِ عالماً اتخذ الناس رؤوساً جهالاً، فسُئلوا فأفتوا بغير علم، فضلوا وأضلوا)) رواه البخاري (100) ومسلم (2673). 3) عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ قال: (لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة). رواه ابن جرير في تفسيره (21/ 335). 4) عن مجاهد قال: (لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضيه الله على لسانه). لا تقدموا بين يدي الله ورسوله. رواه ابن جرير في تفسيره (21/ 336). 5 عن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: (لا تقطعوا الأمر دون الله ورسوله). رواه ابن جرير في تفسيره (21/ 337). من أقول المفسرين والعلماء: 1) قال القرطبي: (أي: لا تقدموا قولاً ولا فعلاً بين يدي الله وقول رسوله وفعله فيما سبيله أن تأخذوه عنه من أمر الدين والدنيا، ومن قدَّم قوله أو فعله على الرسول صلى الله عليه وسلم فقد قدَّمه على الله تعالى؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما يأمر عن أمر الله عز وجل) ((تفسير القرطبي)) (16/ 300).
[/font] [font="] فهذا بعض ما يُفْهَم من هذه الآية: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾[/font] [font="]إن تكلَّمت بكلام يخالف اتجاه القرآن الكريم فالله سميع، وإن سكت وأضمرت ذلك في قلبك فالله عليم.
أي تقيَّدوا بخطاب الشارع وأتوا بالأمر على وجهه كما بيَّنه لكم. يقول ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير الآية: أن لا تقولوا خلاف الكتاب والسنة، ويقول الضحاك: لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم. أخرج ابن المنذر عن الحسن أن أناساً ذبحوا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم النحر فأمرهم أن يعيدوا ذبحاً فنـزلت. وأخرج ابن أبي الدنيا في كتاب الأضاحي بلفظ ذبح رجل قبل الصلاة فنـزلت. لا تقدموا بين يدي الله ورسوله(الحجرات1) - ملتقى الخطباء. من كل ذلك يتبين أن الآية تفيد أن على المسلم أن يلتزم شرع الله وأن لا يقول أو يفعل إلا وفق أمر الله سبحانه وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم. وهي تدل كذلك على أن السيادة لأحكام الشرع وليست لأحكام الوضع ( إن الحكم إلا لله) [يوسف/67]. 2 – ( واتقوا الله) إنّ عطف التقوى على الالتزام بشرع الله بالغ الدلالة على أن التقوى تتطلب امتثال أوامر الله واجتناب نواهيه وليس كما يتقَّول القاعدون (التقوى في القلب) يبررون القعود عن القيام بما فرض الله واجتناب ما حرَّم. 3 – ( إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيم) أي سميع لأقوالكم عليم بأفعالكم ونياتكم فلا تخفى عليه خافية فالتزموا شرعه واتبعوا أمره وكونوا من الصادقين. نسأل الله سبحانه أن نكون ممن يلتزمون شرعه، يحلون حلاله ويحرمون حرامه، لا نخاف في الله لومة لائم ( ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) [المائدة].
وأما من يُعمل رأيه ويهمل شرع ربه فهذا في الحقيقة ليس حرية وإنما هو اتباع وعبودية للأهواء: ( فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ)[القصص: 50]. نسأل الله -عز وجل- أن يعيذنا أجمعين من منكرات الأهواء والأدواء والأخلاق، وأن يعيننا أجمعين على اتباع هدي نبينا الكريم وصراطه المستقيم، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا بمنِّه وكرمه إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء، وهو أهل الرجاء، وهو حسبنا ونعم الوكيل. الخطبة الثانية: الحمد لله كثيرا، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله وسلّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين. أما بعد: أيها المؤمنون: اتقوا الله -تعالى-. عباد الله: قال بعض السلف: " ما من فعلة وإن صغُرت إلا ويُنشر لها يوم القيامة ديوانان: في الأول لِم؟ وفي الثاني كيف؟ " أي لم فعلت؟ وكيف فعلت؟ السؤال الأول سؤالٌ عن الإخلاص لله -جل في علاه-. والسؤال الثاني سؤالٌ عن المتابعة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-. ولا نجاة في ذلك اليوم إلا بالإخلاص للمعبود والاتباع للرسول -صلى الله عليه وسلم-. معنى لا تقدموا بين يدي الله ورسوله أي : - نبض النجاح. جعل الله أعمالنا أجمعين لله خالصة، ولهدي نبيه -صلى الله عليه وسلم- موافقة.
[/font][font="] [/font][font="]مرَّة سألوا إنسانا: ما رأيك في التعامل بالربا ؟ أجاب إجابة فقال: هل يُعقَلُ أن يكون لي رأيٌّ في هذا الموضوع وقد حرمه الله عزَّ وجل ؟ والله إجابة رائعة جدا، وهل يعقل أن يكون لي رأي مع القرآن الكريم ؟ هذا هو الإيمان، الله عزَّ وجل حكم في هذا الموضوع. [/font] [font="]مثال ثان: في آية الخمر يقول الله تعالى: (إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام، رجس من عمل الشيطان، فاجتنبوه لعلكم تفلحون، إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة والبغضاء في الخمر والميسر، ويصدكم عن ذكر الله وعن الصلاة، فهل منتهون) آية صريحة في تحريم شرب الخمر، لا تطرح البديل فتقول: أنا عندي مشاكل وهموم وغموم وأضطر أن أشرب الخمر لكي أنسى المشاكل، فإذا انطلقت من هذا المبدإ فقد قدمت بين يدي الله ورسوله، ونتيجة هذا التقديم ما نراه في واقعنا من كثرة حوادث السير وكثرة السرقات وتخريب البيوت وتشتيت الأسر، وانتشار البغي والتعدي والجرائم بسبب شرب الخمور. [/font] [font="]مثال ثالث: يقول الله تعالى في آية الحجاب (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) يجب على المرأة أن تغطي جميع جسدها ما عدا وجهها وكفيها، لا تقل المرأة أنا سأبدي مفاتني وجمالي لكي يتقدم إلى الخطاب، فإذا فعلت ذلك فقد قدمت بين يدي الله ورسوله، ونتيجة هذا التقديم، أصبحت المرأة اليوم ضحية الأيادي الفاسدة، والذئاب الجائعة.
قال الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ﴾ [الحجرات: 1]. قال المفسرون: أي: يا أيها الذين آمنوا لا تعجلوا بقضاء أمر في دينكم أو شؤونكم العامة كالحرب قبل أن يأذن الله لكم فيه ورسوله، فتخالفوا كتاب الله وسنة رسوله باعتقاد أو فعل أو قول. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/ 335)، ((تفسير الزمخشري)) (4/ 349، 350)، ((تفسير ابن كثير)) (7/ 364)، ((تفسير السعدي)) (ص: 799)، ((تفسير ابن عثيمين - سورة الحجرات)) (ص: 7 - 9). كما قال تعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]. وقال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 51]. وقال عز وجل: ﴿ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا ﴾ [الحشر: 7]. أحاديث وآثار في معنى الآية: 1) عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من رغب عن سنتي فليس مني)).