في سورة البقرة نقرأ قوله عز وجل: { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة ولا يؤخذ منها عدل ولا هم ينصرون} (البقرة:48). ونقرأ أيضاً فيها قوله تعالى: { واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها عدل ولا تنفعها شفاعة ولا هم ينصرون} (البقرة:123). فنلاحظ أنه سبحانه قدم في الآية الأولى قبول (الشفاعة)، على أخذ (الفدية)، وقدم في الآية الثانية قبول (الفدية) على قبول (الشفاعة)، فهل من ملحظ ما وراء هذا التقديم والتأخر؟ موضوع هذه السطور ينصب حول ذلك.
قال -صلى الله عليه وسلم- (مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنَجِّيَهُ اللَّه مِنْ كُرَبِ يَوْمِ القِيَامَةِ، فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ أوْ يَضَعْ عَنْهُ) رواه مسلم ومنها: الوفاء بالنذر، وإطعام الطعام لله. قال تعالى (يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً. وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً. إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً. واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا - YouTube. إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً. فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً). (لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً) أي لا يغني أحد عن أحد. قال السعدي: (لا تَجْزِي) أي: لا تغني (نَفْسٌ) ولو كانت من الأنفس الكريمة كالأنبياء والصالحين (عَنْ نَفْسٍ) ولو كانت من العشيرة الأقربين (شَيْئًا) لا كبيراً ولا صغيراً وإنما ينفع الإنسان عمله الذي قدمه. كما قال تعالى (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى). وقال تعالى (لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ). وقال تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئاً) فهذا أبلغ المقامات أن كلاً من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً.
اهـ[3]. • ﴿ وَلا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ ذكر السعدي في تفسير الآية ما نصه: ﴿ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ ﴾ أي: فداء ﴿ وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ ﴾ [الزمر: 47] ولا يقبل منهم ذلك ﴿وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ أي: يدفع عنهم المكروه، فنفى الانتفاع من الخلق بوجه من الوجوه، فقوله: ﴿ لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا ﴾ هذا في تحصيل المنافع، ﴿ وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ ﴾ هذا في دفع المضار، فهذا النفي للأمر المستقل به النافع. تفسير: (واتقوا يوما لا تجزي نفس عن نفس شيئا ولا يقبل منها شفاعة) - وكالة مينا للأنباء. اهـ[4]. ________________________________________ [1] انظر الجدول في إعراب القرآن لمحمود بن عبد الرحيم صافي (المتوفى: 1376هـ) نشر: دار الرشيد مؤسسة الإيمان – دمشق( 1 /121). [2] تفسير القرآن العظيم لأبن كثير- الناشر: دار طيبة للنشر والتوزيع ( 1 / 256). [3] أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن للشنقيطي الناشر: دار الفكر للطباعة و النشر و التوزيع بيروت – لبنان (1/ 35). [4] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان لعبد الرحمن بن ناصر السعدي- الناشر: مؤسسة الرسالة (1 / 51).
وقرأ الجمهور ( ولا يقبل) بياء تحتية ياء المضارع المسند إلى مذكر لمناسبة قوله بعده: { ولا يؤخذ منها عدل} ، ويجوز في كل مؤنث اللفظ غير حقيقي التأنيث أن يعامل معاملة المذكر لأن صيغة التذكير هي الأصل في الكلام فلا تحتاج إلى سبب ، وقرأه ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب بمثناة فوقية رعياً لتأنيث لفظ ( شفاعة). والشفاعة: السعي والوساطة في حصول نفع أو دفع ضر سواء كانت الوساطة بطلب من المنتفع بها أم كانت بمجرد سعي المتوسط ويقال لطالب الشفاعة مستشفع. وهي مشتقة من الشفع لأن الطالب أو التائب يأتي وحده فإذا لم يجد قبولاً ذهب فأتى بمن يتوسل به فصار ذلك الثاني شافعاً للأول أي مصيّره شفعاً. والعدل بفتح العين العوض والفداء ، سمي بالمصدر لأن الفادي يعدل المفدى بمثله في القيمة أو العين ويسويه به ، يقال عدل كذا بكذا أي سواه به. والنصر هو إعانة الخصم في الحرب وغيره بقوة الناصر وغلبته. وإنما قدم المسند إليه لزيادة التأكيد المفيد أن انتفاء نصرهم محقق زيادة على ما استفيد من نفي الفعل مع إسناده للمجهول كما أشرنا إليه آنفاً. وقد كانت اليهود تتوهم أو تعتقد أن نسبتهم إلى الأنبياء وكرامة أجدادهم عند الله تعالى مما يجعلهم في أمن من عقابه على العصيان والتمرد كما هو شأن الأمم في إبان جهالتها وانحطاطها وقد أشار لذلك قوله تعالى: { وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم} [ المائدة: 18].
والجواب عن الجميع أن محل ذلك كله في الكافرين جمعاً بين الأدلة وأن قوله: { لمن ارتضى} يدل على أن هنالك إذناً في الشفاعة كما قال: { إلا لمن أذن له} [ سبأ: 23] وإلا لكان الإسلام مع ارتكاب بعض المعاصي مساوياً للكفر وهذا لا ترضى به حكمة الله وأما قوله: { فاغفر للذين تابوا} فدعاء لا شفاعة. والظاهر أن الذي دعا المعتزلة إلى إنكار الشفاعة منافاتها لخلود صاحب الكبيرة في العذاب الذي هو مذهب جمهورهم الذين فسروا قول واصل بن عطاء بالمنزلة بين المنزلتين بمعنى إعطاء العاصي حكم المسلم في الدنيا وحكم الكافر في الآخرة ولا شك أن الشفاعة تنافي هذا الأصل ، فما تمسكوا من الآيات إنماهو لقصد التأبيد ومقابلة أدلة أهل السنة أمثالها. ولم نر جوابهم عن حديث الشفاعة ، وأحسب أنهم يجيبون عنه بأن أخبار الآحاد لا تنقض أصول الدين ولذلك احتاج القاضي أبو بكر إلى الاستدلال بالتواتر المعنوي. والحق أن المسألة أعلق بالفروع منها بالأصول لأنها لا تتعلق بذات الله ولا بصفاته ولو جاريناهم في القول بوجوب إثابة المطيع وتعذيب العاصي ، فإن الحكمة تظهر بدون الخلود وبحصول الشفاعة بعد المكث في العذاب ، فلما لم نجد في إثبات الشفاعة ما ينقض أصولهم فنحن نقول لهم: لم يبق إلا أن هذا حكم شرعي في تقدير تعذيب صاحب الكبيرة غير التائب وهو يتلقى من قبل الشارع وعليه فيكون تحديد العذاب بمدة معينة أو إلى حصول عفو الله أو مع الشفاعة ، ولعل الشفاعة تحصل عند إرادة الله تعالى إنهاء مدة التعذيب.
ما لكم لا تناصرون. بل هم اليوم مستسلمون أ. هـ. وبهذا يعلم أن الشفاعة المنفية هنا هي شفاعة الكافرين أو الشفاعة في الكافرين. الثاني: أن التكرار في القرآن الكريم يحصل كثيراً وذلك لحكمٍ كثيرةٍ عظيمةٍ قد نعرف بعضها ، ويخفى علينا كثيرٌ منها: - 1- أن كل جملةٍ مكررةٍ يختلف مدلولها ومعناها عن الجملة الأخرى لأنها تتعلق بما ذكر قبلها من كلام الله تعالى ، وبهذا لا يعد ذلك من التكرار في شيءٍ. فمثلا: قوله تعالى في سورة المرسلات: ويل يومئذ للمكذبين تكررت عشر مرات ، وذلك أن الله تعالى أورد قصصاً مختلفة ، وأتبع كل قصة بهذا القول فكأنه عقب على كل قصة: " ويل يومئذ للمكذب بهذه القصة " ، وكل قصة مغايرة للقصة الأخرى فأثبت الوعيد لمن كذب بها. 2- كما أن الله تعالى لا يخالف بين الألفاظ إلا لاختلاف المعاني ، وأن هذا لا يكون إلا لحكمة يعلمها سبحانه ، وقد يطلع عليها بعض خلقه بما يفتح عليهم من الفهم في كتابه ، وقد يحجبها عنهم ، وهو الحكيم العليم. 3- أن تكرار الكلام يضفي على المعنى الذي تضمنه أهمية ومكانة توجب له عناية خاصة ، ومنها تأكيد المعنى وبقدر ما يحصل التأكيد بقدر ما يدل على الاهتمام بالأمر والعناية به. ( للاستزادة يراجع قواعد التفسير 2 / 702).
وبعد فمن حق الحكمة أن لا يستوي الكافرون والعصاة في مدة العذاب ولا في مقداره ، فهذه قولة ضعيفة من أقوالهم حتى على مراعاة أصولهم ، وقد حكى القاضي أبو بكر الباقلاني إجماع الأمة قبل حدوث البدع على ثبوت الشفاعة في الآخرة ، وهو حق فقد قال سواد بن قارب يخاطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فكُن لي شفيعاً يوم لا ذو شفاعة... بمغننٍ فتيلاً عن سواد بن قارب وأما الشفاعة الكبرى العامة لجميع أهل موقف الحساب الوارد فيها الحديث الصحيح المشهور فإن أصول المعتزلة لا تأباها. وقوله: { ولا يؤخذ منها عدل} والعدل بفتح العين يطلق على الشيء المساوي شيئاً والمماثل له ولذلك جعل ما يفتدي به عن شيء عدلاً وهو المراد هنا كما في قوله تعالى: { أو عدل ذلك صياماً} [ المائدة: 95] فالمعنى: ولا يقبل منها ما تفتدي به عوضاً عن جرمها. والنصر هو إعانة العدو على عدوه ومحاربه إما بالدفاع معه أو الهجوم معه فهو في العرف مراد منه الدفاع بالقوة الذاتية وأما إطلاقه على الدفاع بالحجة نحو { من أنصاري إلى الله} [ آل عمران: 52] وعلى التشيع والاتباع نحو { إن تنصروا الله ينصركم} [ محمد: 7] فهو استعارة.