ألا إنهم هم المفسدون ولكن لا يشعرون)
قال تعالى: {فَلَوْلا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ} [هود: 611]. وتأمَّل دعوة النبي شعيب صلى الله عليه وسلم ؛ فقد كان أعظم ما جاء به - بعد تقرير التوحيد وعبادة الله وحده لا شريك له - مواجهة الفساد المالي. قال الله تعالى: {وَإلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إلَهٍ غَيْرُهُ وَلا تَنقُصُوا الْـمِكْيَالَ وَالْـمِيزَانَ إنِّي أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ * وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْـمِكْيَالَ وَالْـمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلا تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ * بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [هود: 48 - 68]. ولا تعثوا في الأرض مفسدين. وسيرة نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - عامرة بالتحذير من الفساد والغلول والتعدي على حقوق الناس، وقد تواترت النصوص من الكتاب والسنَّة في تقرير ذلك، وقبل نزول كثير من الشرائع، تَـَنزَّل قول الله عز وجل: {وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ * الَّذِينَ إذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ * وَإذَا كَالُوهُمْ أَو وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ * أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ * يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المطففين: 1 - 6].
لقد سقطت البلاد العربية في مستنقعات الفساد ردحًا طويلًا من الزمن، واستضعَف المفسِدون شعوبهم؛ فأسرفوا في التعدي على حرمات الدين وحقوق المجتمع وكرامة الإنسان، وتحوَّل الفساد في كثير من الأحيان من ممارسات شاذة محدودة لبعض الناس إلى مأسسة له وتبنٍ لنواديه ورعاية لمنابره... الحمد لله ربِّ العالمين والعاقبة للمتقين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء وإمام المرسلين، وبعد: فقد تواترت النصوص الشرعية في الكتاب والسُّنة في الحديث عن الفاسدين والمفسدين، وبيان صفاتهم وأماراتهم؛ ليكون الناس على بيِّنة من أمرهم؛ فيحذروهم ويدركوا العقلية المنحرِفة والموازين المضطرِبة التي يتعامل بها أولئك المفسدون مع غيرهم. وقد تكاثر هؤلاء المفسدون في عصرنا الحاضر، وتعدَّدت راياتهم، وتفننوا في ابتكار صنوف الفساد والإفساد في كل الميادين، وكان وجودهم من الأسباب الرئيسية لتخلُّف الأمة وتردِّي مكانتِها؛ من أجل ذلك كان من الواجب علينا أن نتدارس صفاتهم بيانًا للحقيقة، وإيقاظًا للأمة، وتحذيرًا من تغوُّل المفسدين وطغيانهم في البلاد. ومن أبرز الصفات التي جاء بيانها في القرآن الكريم: الصفة الأولى: العلو والاستكبار في الأرض فالعلو والطغيان والاستكبار في الأرض صفات ملازمة للمفسدين، كما قال تعالى: { تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ} [القصص:83] وبضدها تتبين الأشياء، وكما قال سبحانه: { وَفِرْعَوْنَ ذِي الأَوْتَادِ.
أَلا إنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ}* [البقرة:11-12]، وهذا من تقليب الأمور الذي جاء بيانه في قوله تعالى: *{لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ}* [التوبة:48]. وتأمَّل العقلية الفرعونية الطاغية التي تتجدد في كل عصر وتجتهد في قلب الحقائق؛ فقد قال الله عز وجل عن أحد الفراعنة: *{وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ}* [غافر:26]. ففرعون ها هنا يزعم أنه يحافظ على دين قومه من تبديل موسى عليه الصلاة والسلام أو إظهاره الفساد في الأرض! القرآن الكريم - تفسير الطبري - تفسير سورة هود - الآية 85. وهكذا هي سُنة المفسدين في كل عصر، يعترِضون طريق المصلحين ويُشوِّهون صورتهم، ويزعمون أنهم وحدَهم الدعاة إلى الإصلاح والنهضة في المجتمع، على الرغم من أن مشروعَهم في الحقيقة لا يعدو أن يكون إفسادًا للمجتمع وتشويهًا له. ولهذا كان واجب المصلحين حقًا أن يواجهوا أولئك السفهاء، ويبصِّروا المجتمع بمخازيهم، امتثالًا لقول الله جل وعلا: *{فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ۗ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ} (هود-116)*