والقول الثاني: أن التشبيه في عدد الصوم، وفيه قولان: أحدهما: أن النصارى كان الله فرض عليهم صيام ثلاثين يومًا كما فرض علينا، فكان ربما وقع في القيظ، فجعلوه في الفصل بين الشتاء والصيف، ثم كفَّروه بصوم عشرين يومًا زائدة، ليكون تمحيصًا لذنوبهم وتكفيرًا لتبديلهم، وهذا قول الشعبي. والثاني: أنهم اليهود كان عليهم صيام ثلاثة أيام من كل يوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر، فكان على ذلك سبعة عشر شهرًا إلى أن نُسخ بصوم رمضان، قال ابن عباس: كان أول ما نسخ شأن القبلة والصيام الأول" [7]. ثم إنه حصل في صيام الإسلام ما يخالف صيام أهل الكتاب في قيود ماهية الصيام وكيفيتها، ولم يكن صيامنا مماثلًا لصيامهم تمام المماثلة، والتشبيه في أصل فرض ماهية الصوم لا في الكيفيات، والتشبيه يُكتفَى فيه ببعض وجوه المشابهة، وهو وجه الشبه المراد في القصد، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالة في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة، ولكن فيهم أغراضًا ثلاثة تضمنها التشبيه: أحدها: الاهتمام بهذه العبادة، والتنويه بها؛ لأنها شرعها الله قبل الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين، وشرعها للمسلمين، وذلك يقتضي اطراد صلاحها ووفرة ثوابها، وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كيلا يتميز بها من كان قبلهم.
كما في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر والسفر، فأقرت صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر. 11 والخمر لم يحرمها الله عز وجل دفعة واحدة؛ بل على ثلاث مراحل. وفي آية الصوم معنى عجيب لمن تأمله، فالله عز وجل خاطبهم بالإيمان { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} وهذا فيه نوع من إثارة الإيمان بهم وتشجيعهم وحثهم على السماع والتنفيذ، ثم الإشارة إلى الكتاب أنه كتب عليهم، وهذا فيه حث لهم؛ لأنه لو كان هذا الأمر مسنوناً أو مستحباً فربما فرط فيه بعض الناس فقول ربنا سبحانه: { كُتِبَ} يعلم المستمع أن الكاتب هو الله الخالق سبحانه، فيحثهم هذا على التطبيق ثم يقول: { كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ} أي: هذا أمر لم تنفردوا به عن غيركم، ثم يُبين سبحانه وتعالى أنهم هم المقصودون، وأن المصلحة لهم { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}. ثم يؤكد سبحانه أن الأمر لا يتجاوز أياماً معدودات. الثامنة: الفرق الشاسع والبون العظيم بين أمة محمد -صلى الله عليه وسلم- وبين بني إسرائيل، فبنو إسرائيل في قوله تعالى: { وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ} (67) سورة البقرة،لم يأتمروا بأمر الله مباشرة؛ بل شددوا فشدد الله عليهم، بينما الصحابة رضي الله عنهم عندما قال الله عز وجل: { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} صاموا حسب وسعهم وفهمهم واستطاعتهم، ولم يترددوا.