إن تخيير الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بين لقاء ربه والبقاء والخلود في الدنيا، واختيار النبي صلى الله عليه وسلم لقاء ربه، أمْر ثابت وصحيح، وفيه دليل على علو منزلة النبي صلى الله عليه وسلم وكذا إخوانه من الأنبياء والرسل جميعا عليهم الصلاة والسلام، وفيه إظهار لتواضعه صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( إن عبداً) ولم يقل: نبيّاً ولا رسولا، كما فيه كذلك زهده صلى الله عليه وسلم في الدنيا، وتقديمه جوار الله عز وجل على البقاء في الدنيا والتمتع بها، فقال صلى الله عليه وسلم: ( إنّ عبداً خيّره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدّنيا ما شاء، وبين ما عنده، فاختار ما عنده). مواد ذات الصله
روي أن بلالاً كان يؤذن بعد وفاته صلى الله عليه وسلم قبل دفنه، فإذا قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ارتج المسجد بالبكاء والنحيب، فلما دفن صلى الله عليه وسلم ترك بلال الأذان، ما أمر عيش من فارق الأحباب، خصوصاً من كانت رؤيته حياة للألباب، لقد أدرك المسلمون عظم المصيبة التي أصابتهم بفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأيقنوا أن أبواب الشر قد انفتحت عليهم، وأن الفتن آتية لا محالة، وأن اللحظة التي طالما انتظرها أهل النفاق قد حان زمانها. أخرج الحاكم عن ابن عمر مرفوعاً: ( ليغشين أمتي من بعدي فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمناً ويمسي كافراً، ويمسي مؤمناً ويصبح كافراً، يبيع أقوام دينهم بعرض من الدنيا قليل). صححه الألباني رحمه الله، ولقد أشار محمد بن إسحاق بكلمات صادقة وتصوير رائع إلى الآثار التي أعقبت وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، والحالة التي أصبح عليها المسلمون بعد فراقه صلوات ربي وسلامه عليه فقال: ولما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ارتدت العرب، واشرأبت اليهودية والنصرانية، ونجم النفاق، وصار المسلمون كالغنم المطيرة في الليلة الشاتية؛ لفقد نبيهم صلى الله عليه وسلم، قلت أنا: يا لله!
وفي ذلك عبرةُ الموتِ أيضاً.. قالها قبله زُهير بن أبي سَلمَى عن عمرٍ يناهزُ الثّمانين، قالها ملئ فمه غير آبه ولا مُعقّب على شَيء: سَئِمتُ تَكاليفَ الحَياةِ وَمَن يَعِش ثَمانينَ حَولاً لا أَبا لَكَ يَسأَمِ فكأنّما كانت رغبته الأولى بالحياة تخبُو، وتمسّكه بها يتضاءل فغلبت عليهِ حالُه تلك حتّى استكنت رُوحه من اللّهاث خلف أسرابِ الضّباب المُزجاة -دون طائل يرجى مِنها- لحقيقة الموت. ومن ذا الذي لا يسأم من تصديقِ الفَناء والزّوال؟!