وحديث صفية رضي الله عنها كان النبي ﷺ يعتكف في رمضان وزارته صفية في الليل فتحدثت عنده بعض الشيء، ثم قامت فقام معها يقلبها إلى باب المسجد، فمر رجلان من الأنصار رضي الله عنهما فلما رأيا النبي ﷺ استعجلا، فقال: على رسلكما -يعني على مهلكما- إنها صفية بنت حيي خشي أن يلقي الشيطان في قلوبهما شرًا أنها أجنبية، قالا: سبحان الله يا رسول الله!
ولهذا كان يعتكف في المسجد هذه العشر، فعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان» [10] ، واستمر هديه في هذا حتى آخر سنة من حياته الشريفة عليه الصلاة والسلام فزاد هذه العشر عشراً أخرى، قالت عائشة رضي الله عنها: «كان النبي يعتكف في كل رمضان عشرة أيام، فلما كان العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً» [11]. فالعشر الأواخر لها شأن خاص، تصفه عائشة رضي الله عنها في وصفين كاشفين عن حقيقة هذا الاجتهاد النبوي الخاص فيها، فتقول: «كان يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيره» [12]. كان النبي صلي الله عليه وسلم مزخرف. وتقول: «كان النبي إذا دخل العشر شد مئزره وأحيا ليله وأيقظ أهله» [13]. غير أن قيام الليل آنذاك لم يكن في جماعة واحدة في المسجد، وإنما كانوا يصلون فرادى، وإنما صلى بهم النبي صلى الله عليه وسلم بعض ليالٍ منها ثم ترك، تبين ذلك عائشة رضي الله عنها فتقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى في المسجد ذات ليلة فصلى بصلاته ناسٌ، ثم صلى من القابلة فكثر الناس، ثم اجتمعوا من الليلة الثالثة أو الرابعة، فلم يخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلما أصبح قال: «رأيت الذي صنعتم فلم يمنعني من الخروج إليكم إلا خشية أن يُفرض عليكم».
وأن معنى قوله تعالى: ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) لا إشكال فيه ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينطق بشيء من أجل الهوى ، ولا يتكلم بالهوى ، وقوله تعالى: ( إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى) يعني أن كل ما يبلغه عن الله فهو وحي من الله ، لا بهوى ، ولا بكذب ، ولا افتراء ، والعلم عند الله تعالى " انتهى. "
2- وإذا جاز لغيره من الأمة أن يجتهد بالإجماع مع كونه معرضا للخطأ ، فلأن يجوز لمن هو معصوم عن الخطأ بالأولى. 3- ويدل على ذلك دلالة واضحة ظاهرة قول الله عز وجل: ( عفا الله عنك لم أذنت لهم)، فعاتبه على ما وقع منه ، ولو كان بالوحي لم يعاتبه. 4- ومن ذلك ما صح عنه صلى الله عليه وسلم من قوله: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت لما سقت الهدي) أي: لو علمت أولا ما علمت آخرا ما فعلت ذلك ، ومثل ذلك لا يكون فيما عمله صلى الله عليه وسلم بالوحي. 6- وأمثال ذلك كثيرة: كمعاتبته صلى الله عليه وسلم على أخذ الفداء من أسرى بدر بقوله تعالى: ( مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأرض) الأنفال/67، وكما في معاتبته صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى: ( وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ) الأحزاب/37. كان النبي صلي الله عليه وسلم فادلجوا . إلى آخر ما قصه الله في ذلك في كتابه العزيز. والاستيفاء لمثل هذا يفضي إلى بسط طويل ، وفيما ذكرناه ما يغني عن ذلك ، ولم يأت المانعون بحجة تستحق المنع أو التوقف لأجلها " انتهى، مختصرا. " إرشاد الفحول " (427-429) وقال العلامة الأمين الشنقيطي رحمه الله: " الذي يظهر أن التحقيق في هذه المسألة أنه صلى الله عليه وسلم ربما فعل بعض المسائل من غير وحي في خصوصه ، كإذنه للمتخلفين عن غزوة تبوك قبل أن يتبين صادقهم من كاذبهم ، وكأسره لأسارى بدر [ وأخذ الفداء منهم] ، وكأمره بترك تأبير النخل ، وكقوله: ( لو استقبلت من أمري ما استدبرت... ) الحديث.. إلى غير ذلك.