ثم أورد حديث أبي أمامة عن النبي ﷺ قال: من صام يوما في سبيل الله؛ جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض [3] رواه الترمذي، وقال: حديث حسن صحيح. جعل الله بينه وبين النار خندقًا كما بين السماء والأرض الخندق: هو الحفير في الأرض -كما هو معروف- كان ذلك يتخذ من أجل حماية الحصون، فيحفر حولها قبالة العدو، فلا يصل إليها أحد، أو غير ذلك مما كان يصنعه الناس آنذاك، فهنا خندق بين الإنسان وبين النار، يعني أنها بعيدة عنها، وبينه وبينها عقبة، وهذه العقبة هي الخندق، عقبة واسعة جدًا لا يمكن أن نتصور هذه السعة كما بين السماء والأرض، فهذا شيء لا يمكن للمخلوق أن يتصوره، صوم يوم واحد في سبيل الله. من صام يوما في سبيل الله. ولهذا فإن المؤمن حينما يسمع مثل هذه الأحاديث، يقبل على هذه العبادة، ويصبر على قليل من العطش، أو الجوع، لا يتضرر به من أجل أن يحصل مثل هذه الأجور والمراتب والمنازل العالية، والدنيا دار هي معبر، ومتعها ولذاتها متقضية زائلة، وهذه هي مدخرات الأعمال الحقيقية، التي يصل بها الواصلون إلى الله تبارك وتعالى. ثم ذكر حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله ﷺ: من مات ولم يغز، ولم يحدث نفسه بغزو؛ مات على شعبة من النفاق [4] رواه مسلم.
وأشار الي ان للصوم في سبيل الله ميزتين, الأولي: الزمان والثانية:المكان, فأما ميزة الزمان فتتضح بالوقت الذي اختصه الله تعالي بأن جعل الدعاء مقبولا فيه, وأما المكان فهو موضع الجهاد الذي ورد في شأنه أن له من الفضل ما يقرب صاحبه من الجنة وما يجعله كأنه في الجنة بالفعل(واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف). وأن الصيام يدل علي مدي حب الصائم للعبادة ويدل علي مدي استمراره عليها وإخلاصه فيها ورواية الإمام مسلم لهذا الحديث بلفظ( من صام يوما في سبيل الله باعد الله وجهه عن النار سبعين خريفا)وما سبق من معني الحديث هو أن معني في سبيل الله أي في الجهاد, لكن قال الإمام القرطبي: سبيل الله طاعة الله, فالمراد بالحديث علي هذا من صام قاصدا وجه الله أي مخلصا لله في صومه, وقال ابن دقيق العيد:العرف الأكثر في الاستعمال هو في الجهاد فإن حمل عليه كانت الفضيلة لاجتماع العبادتين. فأرشد هذا الحديث إلي فضل الصيام في سبيل الله لمن لم يتضرر بالصوم ولا يفوت به حقا من الحقوق ولا يختل به قتال ولا غيره من مهمات الغزو, كما يستنبط من الحدبث فضل اجتماع فضيلتين في وقت واحد والدلالة علي صدق الإقبال علي الله تعالي بحب, كما يؤخذ من الحديث أيضا فضل كل من عبادة الصوم والجهاد في سبيل الله تعالي, وأن الذي يتعود علي عبادة الصيام يمكنه أداؤها ولا تؤثر علي عمله ولا علي إنتاجه كما يزعم البعض ممن يحاولون التحايل وترك عبادة الصيام.
الوقفة التاسعة: إياك والتساهل مع محقرات الذنوب، فإنها هي العتبات الأولى للذنوب والسيئات، فاجعَل يوم صومك مصونًا عن الخطأ؛ حتى تكتمل عندك جُنة الصيام، ولعل الله أن يُمدك بتوفيقه، فيرزقك هذه الجُنة يوم فطرك أيضًا، فيا بشراك، واعلم أن من صفات المتقين أنهم لا يُصرون على الذنوب إذا سوَّلت لهم نفوسُهم مزاولتها، بل سريعًا ما يفيئون ويرجعون مستشعرين بذلك قوله تعالى: ﴿ أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ﴾ [العلق: 14]، فيستغفرون الله عما فعلوا، لذلك كانت لهم طوبى وهي شجرة في الجنة لمن كان في صحيفته استغفارٌ كثير. الهمسة العاشرة: كم هو جميل تربية من تحت أيدينا على المحافظة على جُنة الصيام لمعرفتها وصيانتها؛ ليكتمل أجرهم، ولعل الله أن يهَبَنا مثله؛ حيث دللناهم على ذلك، والدال على الخير كفاعله، وحينما تتسع دائرة الانتفاع والدعوة، فنطرح ذلك على جُلسائنا وأقربائنا ومن نلتقي بهم، فإن الأجر يعظُم بإذن الله تعالى، ورُب مبلغٍ أوعى من سامع، فحينها سنسعد بمجتمع محافظٍ على تلك الجُنة مما يخرقها أو يُعكر صفوها. وفي الختام أهمس في أذنك أخي الكريم قائلًا: كل معصية ترِد على خاطرك ويُسول لك الشيطان فعلها، اجعل أمامها نصوص الوحيين، فإنها ستحرقها، ولكن اعزم واصدُق، وستوفَّق بإذن الله تبارك وتعالى.