اعتقالات وإعدامات لم يكتفِ رجل العثمانيين الأول في الشام بإقصاء العرب عن إدارة بلدانهم، بل قام باعتقال المثقفين العرب ببيروت ودمشق، وإعدامهم بتهم ملفقة ومطبوخة على شاكلة التخابر والتجسس لصالح بريطانيا وفرنسا، ومحاولة الانقلاب والانفصال عن الدولة العثمانية، وهي التهمة نفسها التي تنطبق على "جمال باشا" الذي حاول فرض نفوذ مطلق في الشام؛ بغية تكرار تجربة محمد علي باشا في مصر، والانفصال بالشام عن الإمبراطورية العثمانية، وتنصيب نفسه سلطاناً عليها. وعلى غرار غيره من طغاة العثمانيين قام "جمال باشا" بإقامة محاكمات صورية عرفية لضحاياه لم يراعِ فيها أعرافاً دولية ولا قانونية، ولا حتى أخلاقاً إسلامية، ولم تتسم بالحد الأدنى من معايير المحاكمات العادلة، وصدرت الأحكام الجاهزة بإعدام جمع غفير من الأبرياء، وبرغم التوسلات والمناشدات بوقف الأحكام، وإطلاق سراح ضحاياه، إلا أن الرجل كان عاقد العزم على التخلص منهم، وإراقة دمائهم، ونفذت أحكام الإعدام شنقاً على دفعتين: واحدة في 21 أغسطس 1915م، وأخرى في 6 مايو 1916م، في كلٍ من ساحة البرج في بيروت، فسميت ساحة الشهداء، وساحة المرجة في دمشق. تفنن في التعذيب كما كان يتفنن السفاح العثماني في تعذيب ومعاقبة معارضيه في شتى أنواع العذابات والآلام، وذلك بوضعهم على "الخازوق" تارة، وقلع أظافرهم تارة أخرى، كما عُرف عنه مجونه وعدم التزامه بالأخلاق الإسلامية، فقد كان يحضر الحفلات الماجنة التي كانت تقيمها الجاليات الأوروبية في بغداد، وكان يراقص زوجة مدير البنك العثماني وكان بريطاني الجنسية بطريقة لم يألفها العرب والمسلمون، واستنكروها عليه.
قُتل جمال باشا في بتبليسي سنة 1922 م وقتله أرمني يسمي اسطفان زاغكيان لانه كان ممن خططوا للقضاء على الارمن بحركة عرفت بعملية نيمسيس أي العقاب
ومن العجيب أنه أعدم هؤلاء بحُجٌة تخابرهم مع البريطانيين والفرنسيين مع أنه بأفعاله وسياساته كان أكثر تدميرا للعلاقة العربية العُثمانية، أكثر إفادة للبريطانيين والفرنسيين، وقد بلغ الأمر بأحكام جمال باشا أنها كانت تصدُر بدون معايير أو إجراءات أو ضمانات وبدون هدف إلا زيادة العداوة والقضاء على كوادر القيادة الوطنية التي كان من المُمكن أن تُفيد الدولة العثمانية نفسها في حربها مع القوى الكبرى التي كانت تحشد كل ما تستطيع حشده من إمكاناتها ومعنوياتها على حد سواء.
عُيّن جمال باشا بصلاحيات كاملة في الشؤون العسكريّة والمدنيّة حاكماً لسوريا في عام 1915. منحه قانون مؤقت سلطات الطوارئ في مايو من ذلك العام، أصبحت جميع المراسيم الوزارية من القسطنطينيّة المتعلقة بسوريا خاضعة لموافقته. فشلت هجماته على كل من هجومه الأول والثاني على قناة السويس، إلى جانب متطلبات الحرب والكوارث الطبيعية التي عصفت بالمنطقة خلال هذه السنوات، أدى ذلك إلى نفور السكان من الحكومة العثمانية، وأدى إلى اندلاع الثورة العربيّة. في غضون ذلك كان الجيش العثماني بقيادة العقيد كريس فون كريسنشتاين يتقدم نحو سيناء ويحتلها، كان الرجلان يتسمان بالاحتقار المقنع لبعضهما البعض، ممّا أضعف الأمر. كان يُعرف جمال باشا بين السكان العرب المحليين باسم السفاح، وكلمة السفاح تعني "سفك الدماء"، كونه مسؤولاً عن شنق العديد من السياسين اللبنانيين والسوريين الشيعة والمسيحيين المتهمين خطأ بالخيانة في (6) مايو (1916) في مناطق دمشق وبيروت. (يذكر زعيم "تيار بيروت الإصلاحي" سليم علي سلام في مذكراته السياسية بما يلي: بدأ في حبس معظم الشخصيّات العربية بتهمة الخيانة العظمى للدولة، كان نيته الحقيقية قطع الرؤوس المدروسة حتى لا يظهر العرب مرة أخرى كقوة، على حد تعبيره، ولن يُترك أحد للمطالبة بحقوقهم، بعد العودة إلى بيروت، تمّ استدعائي إلى دمشق لتحية جمال باشا ركبت القطار، وعند وصولنا إلى عاليه وجدنا أنّ القطار بأكمله كان مخصّصًا للسجناء هناك لنقلهم إلى دمشق، عندما رأيتهم، أدركت أنّهم يستقلون لدمشق لقتلهم.
وقد دخلتِ الشامُ إبّان حكم جمال في مجاعة لم تعرف لها مثيلاً فأكل الناسُ أوراقَ الشجر والقططَ والكلابَ ومات الناسُ جوعاً وقهراً.. وأُخِذَ أبناؤهم إلى حروب لا ناقة لهم فيها ولا جمل كحروب البلقان وجناق قلعة وحرب الترعة ضد الجيش الإنكليزي المحتل لمصر. بين الجوع والقهر والفقدان والموت عاش أبناء سوريا حقبة جمال فضاقوا به ذرعاً فنهض خيارهم ليقارع المحتل لأرضهم بالفكر واللسان والبيان وأخبروه بضرورة التغيير عاجلاً فإن الأرض تغلي ببراكينَ قد تنفجر بأي لحظة، فأبى السفاح إلا أن يقابل أبناء البلد الوطنيين بالإجرام والقتل والاعتقال والخطف بحجج واهية كاذبة خادعة، فزج بخيرة مثقفي الوطن وأعيانه في السجون وعلق مشانقهم في بيروت ودمشق إمعاناً منه في الإجرام ليرهب الشعب ويقمع الثورة في مهدها، إلا أن النتائج كانت عكس ما أراد فدالت دولته وزال حكمه. ومن شهداء المشانق: شفيق العظم، عبد الوهاب الإنكليزي، شكري العسلي، رفيق رزق سلوم، عبد الحميد الزهراوي، رشدي الشمعة، سعيد عقل، عمر حمد، عبد الغني العريسي، أحمد طبارة، عبد الكريم الخليل، وغيرهم. وإنَّ كثيراً من الأبطال الأبرار قضوا على يد السفاح، يصعب عدهم وحصرهم ومعرفة أسمائهم، وما ضرّهم إنْ لم نعرفهم نحن إن كانوا قد مضوا في طريق الحرية ضد الطاغية وجندِه واثقي الخُطى مُلوكاً غير متوجين.
بقي أن نشير إلى أن هؤلاء الانقلابيين كانوا يُسمٌون أنفسهم بالاتحاديين نسبة إلى جبهة الاتحاد والترقي، وهي تسمية مُخادعة دوما لا يتسمٌى بها إلا من يسعى إلى الخلاص من الوحدة من أجل الطائفيه.