قلت: وتجوز بعض أهل الإشارات في غوامض المعاني فعدل عن ظاهر ما ذكرناه إلى ما تدفعه بدائة العقول من أنه ليس المراد من إبراهيم. فقال: والذي هو يطعمني ويسقين أي يطعمني لذة الإيمان ويسقين حلاوة القبول. ولهم في قوله: وإذا مرضت فهو يشفين وجهان: أحدهما: إذا مرضت بمخالفته شفاني برحمته. الثاني: إذا مرضت بمقاساة الخلق ، شفاني بمشاهدة الحق. وقال جعفر بن محمد الصادق: إذا مرضت بالذنوب شفاني بالتوبة. وتأولوا قوله: والذي يميتني ثم يحيين على ثلاثة أوجه: فالذي يميتني بالمعاصي يحييني بالطاعات. واذا مرضت فهو يشفين - موضوع. الثاني: يميتني بالخوف ويحييني بالرجاء. الثالث: يميتني بالطمع ويحييني بالقناعة. وقول رابع: يميتني بالعدل ويحييني بالفضل. وقول خامس: يميتني بالفراق ويحييني بالتلاق. وقول سادس: يميتني بالجهل ويحييني بالعقل; إلى غير ذلك مما ليس بشيء منه مراد من الآية; فإن هذه التأويلات الغامضة ، والأمور الباطنة ، إنما تكون لمن حذق وعرف الحق ، وأما من كان في عمى عن الحق ولا يعرف الحق فكيف ترمز له الأمور الباطنة ، وتترك الأمور الظاهرة ؟ هذا محال. والله أعلم. تفسير الطبري يقول: والذي يميتني إذا شاء ثم يحييني إذا أراد بعد مماتي.
وخامسها: قوله: ( والذي أطمع أن يغفر لي خطيئتي يوم الدين) فهو إشارة إلى [ ص: 126] ما هو مطلوب كل عاقل من الخلاص عن العذاب والفوز بالثواب. واعلم أن إبراهيم عليه السلام جمع في هذه الألفاظ جميع نعم الله تعالى من أول الخلق إلى آخر الأبد في الدار الآخرة.
الثاني: أن المرض إنما يحدث باستيلاء بعض الأخلاط على بعض ، وذلك الاستيلاء إنما يحصل بسبب ما بينها من التنافر الطبيعي. والذي هو يطعمني ويسقين. أما الصحة فهي إنما تحصل عند بقاء الأخلاط على اعتدالها ، وبقاؤها على اعتدالها إنما يكون بسبب قاهر يقهرها على الاجتماع ، وعودها إلى الصحة إنما يكون أيضا بسبب قاهر يقهرها على العود إلى الاجتماع والاعتدال بعد أن كانت بطابعها مشتاقة إلى التفرق والنزاع ، فلهذا السبب أضاف الشفاء إليه سبحانه وتعالى ، وما أضاف المرض إليه. وثالثها: وهو أن الشفاء محبوب وهو من أصول النعم ، وكان مقصود إبراهيم عليه السلام تعديد النعم ، ولما لم يكن المرض من النعم لا جرم لم يضفه إليه تعالى ، فإن نقضته بالإماتة فجوابه: أن الموت ليس بضرر ، لأن شرط كونه ضررا وقوع الإحساس به ، وحال حصول الموت لا يقع الإحساس به ، إنما الضرر في مقدماته وذلك هو عين المرض ، وأيضا فلأنك قد عرفت أن الأرواح إذا كملت في العلوم والأخلاق كان بقاؤها في هذه الأجساد عين الضرر وخلاصتها عنها عين السعادة بخلاف المرض. ورابعها: قوله: ( والذي يميتني ثم يحيين) والمراد منه الإماتة في الدنيا والتخلص عن آفاتها وعقوباتها ، والمراد من الإحياء المجازاة.
فالموت أن تخرج الروح، والجسم سليم الأجزاء كامل الإعضاء، وبعد خروج الروح تُنقض البنية، أما القتل فيكون بنقْض البنية نَقْضاً يترتب عليه خروج الروح. إذن: الموت لم يدَّعه أحدٌ لنفسه، ولما ادعاه النمرود جادله إبراهيم ـ عليه السلام ـ في ذلك، وكشف زيف هذا الادعاء، كما قال تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} [البقرة: 258]. ولم يفعل إلا أنْ جاء برجل فأمر بقتله، ثم عفا عنه؛ لذلك رأى إبراهيم عليه السلام أنْ يقطع عليه الطريق، فقال: { فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ} [البقرة: 258]. والذي هو يطعمني ويسقين. وهكذا أنهى هذه السفسطة، وكشف حقيقة هذا المكابر المعاند. وتأمل حرف العطف { وَٱلَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ} [الشعراء: 81] و(ثم) تفيد العطف مع التراخي، ولم يقل: ويحيين؛ لأن الواو تفيد مُطلَق العطف، وبين الموت والإحياء الآخر مسافة طويلة، ألا ترى قوله تعالى: { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ} [عبس: 21ـ22].
إذا حرثت الأرض ووضعت فيها بذور الأشجار لتنمو، فهذه العملية تعرف بالزرع، واذا نمت الشجرة ونقلت بعد ذلك لتوضع في مكان آخر لتنمو، فهذه العملية تعرف بالغرس. اقرأ أيضا: الفرق بين التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي الغرس والزرع في القرآن والأحاديث النبوية ذكرت كلمة "الغرس" و "الزرع" في الكثير من الآيات والأحاديث النبوية، منها ما رواه البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ""لا يزرع مسلم زرعًا غرسًا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة". أشار الرسول -صلى الله عليه وسلم- الى الغرس في حديث آخر رواه أحمد أنه قال: "من بنى بنيانا من غير ظلم ولا اعتداء، أو غرس غرسا في غير ظلم ولا اعتداء، كان له أجر جار ما انتفع به من خلق الرحمن تبارك وتعالى".
أما الزرع، فهو عملية الإنبات وذلك من القيام بمراحل الحرث.
الزرع: هي عملية النثر للحبوب في الأرض والتراب.