سورة مريم يزخر القرآن الكريم بالكثير من السور التربوية والإيمانية التي تساعد على تربية النفس والنهوض بالذات، ولعل أكثرها تأثيرًا في النفس هي السور القصصية التي تحكي سيرة الأنبياء والتابعين والصالحين الذين خصهم الله بجانب من كتابه الكريم، ولنا في سورة مريم مثال في ذلك لما تشمله من مواضيع وفوائد سنتطرق إليها في هذا المقال. وقد نزلت سورة مريم على الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، وهي السورة التاسع عشرة في المصحف الشريف، وعدد آياتها 98 آية، وقد سميت السورة على اسم مريم العذراء والدة عيسى المسيح عليهما السلام، وتعد السورة الوحيدة التي تحمل اسم امرأة، بل يعد اسم مريم هو الاسم الصريح الوحيد الذي ذُكر في القرآن كله، إذ أن عددًا من النسوة أُشير إليهن إشارة لا بالتسمية الصريحة، ولعل هذا فيه تكريمًا ورفعًا لقدر المرأة في الإسلام، ودعوةً لتدبر الآيات والرفق بالنساء وإعطائهن حقوقهن التي كفلتها لهن الشريعة السمحاء. [١] فوائد سورة مريم للرزق في تفسير آيات سورة مريم العديد من الحكم والفوائد القيمة التي يجدر بالإنسان أن يتخذها في حياته ويحافظ عليها، كما أن لها فوائد عظيمة في جلب الرزق ، إذ كانت سورة مريم سببًا في حماية النجاشي للمسلمين حين خرجوا من مكة المكرمة بعد ما لقوه من التعذيب والأذى، فحين قرأ جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه ابن عم الرسول عليه السلام آيات منها استشعر النجاشي الشبه بين الدينين وعرف أن دين الإسلام لا بد أنه آت من خالق عظيم، فما كان منه إلا أنه آواهم ومدهم بالطعام والشراب والحماية وكل ذلك يعد رزقًا كبيرًا ووفيرًا.
سبب نزول سورة مريم فيما يلي بيان لسبب نزول بعض آيات سورة مريم [٨]: سبب نزول آية: {وَما نَتَنَزَّلُ إِلّا بِأَمرِ رَبِّكَ}: عن عبدالله بن عباس قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( يا جِبْرِيلُ، ما يَمْنَعُكَ أنْ تَزُورَنا أكْثَرَ ممَّا تَزُورُنا، فَنَزَلَتْ: {وَما نَتَنَزَّلُ إلَّا بأَمْرِ رَبِّكَ له ما بيْنَ أيْدِينا وما خَلْفَنا} [مريم: 64] إلى آخِرِ الآيَةِ، قالَ: كانَ هذا الجَوابَ لِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ) [٩] [١٠]. سبب نزول الآية: {أَفَرَأَيتَ الَّذي كَفَرَ بِآَياتِنا}: عن خباب بن الأرت أنّه قال: ( كانَ لي علَى العَاصِ بنِ وَائِلٍ دَيْنٌ، فأتَيْتُهُ أَتَقَاضَاهُ، فَقالَ لِي: لَنْ أَقْضِيَكَ حتَّى تَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ، قالَ: فَقُلتُ له: إنِّي لَنْ أَكْفُرَ بمُحَمَّدٍ حتَّى تَمُوتَ ثُمَّ تُبْعَثَ، قالَ: وإنِّي لَمَبْعُوثٌ مِن بَعْدِ المَوْتِ؟ فَسَوْفَ أَقْضِيكَ إذَا رَجَعْتُ إلى مَالٍ وَوَلَدٍ. قالَ وَكِيعٌ: كَذَا قالَ الأعْمَشُ، قالَ: فَنَزَلَتْ هذِه الآيَةُ: {أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بآيَاتِنَا} وَقالَ: {لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} إلى قَوْلِهِ: {وَيَأْتِينَا فَرْدًا}.
[٢] مواضيع سورة مريم اشتملت سورة مريم على العديد من المحاور الهامة التي تتضمن تفاصيل كثيرة في سيرة حياة السيدة مريم ووضعها لعيسى عليه السلام، ومن أهم مواضيع السورة ما يلي: [٣] رد الله تعالى على الكافرين المشركين الذين كانوا يرون بمريم عليها السلام امرأة خاطئة لأنها أنجبت ولدًا دون زواج، وكانوا يرون أن عيسى عليه السلام هو ابن الخطيئة، فما كان جهلهم وكفرهم إلا ظلامًا على عيونهم يمنعهم من تصديق المعجزات والآيات الربانية الكثيرة، فأنزل الله السورة ليبين أنه وضع عيسى في رحم مريم وجعلها تنتبذ في العراء وتأكل من النخلة حتى وضعت طفلها. وردت لقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام، فقد كان زكريا كبيرًا في العمر وامرأته عاقر، لكن الله جعل له من الذرية نصيبًا في يحيى وأمره ألا يكلم الناس ثلاث ليالٍ، وفي ذلك مقاربة بين يحيى وعيسى عليهما السلام، كما أن بينهما قرابة في الدم من الأم، ثم تعرج الآيات على ذِكر الأنبياء إبراهيم وآدم ونوح وغيرهم تأكيدًا على كون عيسى واحدًا منهم. بينَ الله تعالى للنصارى أنه خالق السموات والأرض والكون وما فيه، وأنه لم يتخذ ولدًا كما كانوا يعتقدون، وفي ذلك أهمية كبيرة في تأكيد وحدانية الله وربوبيته عز وجل، فكل عمل أو قول يتعارض مع هذا المفهوم ما هو إلا شرك بالله، سيكون مصيره العقاب في الآخرة يوم الحساب، إلا إذا أدرك الإنسان خطأه وتاب وعمل صالحًا فإن الله غفور رحيم.
[١٣] وبعد ذلك أثنى الله على عموم الأنبياء فقال -تعالى-: (أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَإِسْرائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنا وَاجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَبُكِيًّا). [١٤] وهؤلاء الأنبياء قد أحسنوا عبادة ربهم، وأحسنوا الدعوة إليه، ومن جاء بعدهم قد انحرف عن منهجهم؛ واستزلهم الشيطان فأضاعوا وضيعوا، وابتعدوا عن شعائر الله -تعالى-، وذكر القرآن تركهم لشعيرة الصلاة؛ لأنها أعظم الشعائر بعد الشهادتين، قال -تعالى-: (فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا). [١٥] وأي وعيد بعد وعيد الله -تعالى-، فقد توعدهم بسبب غيهم وضلالهم، ومن رحمته -تعالى- أنه فتح الباب على مصراعيه للتوبة والإنابة، فالله الرحيم الذي افتتحت سورة مريم بذكر رحمته: (ذِكرُ رَحمَتِ رَبِّكَ) ، [١٦] وقد استثنى التائبين من العقوبة، بل وعدهم بدخول الجنة مع توبته عليهم، قال -تعالى-: (إِلَّا مَن تَابَ وَءَامَنَ وَعَمِلَ صَلِحا فَأُوْلَئِكَ يَدخُلُونَ الجَنَّةَ وَلَا يُظلَمُونَ شَيئاً).
فضل سورة مريم لم يرد عن النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- أحاديثٌ صحيحةُ أو حسنة خاصّة في فضل سورة مريم، ولكنّها سورةٌ من سور القرآن أي إنّ لقارئها من الأجر ما لقارئ القرآن الكريم بصفة عامّة. [١] وقد أورد بعضٌ من أهل العلم في فضل سورة مريم بعض الأحاديث الضّعيفة ، أو التي لا تصحّ نسبتها إلى رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- بسند متّصل صحيح، ومن ذلك: عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: "مَن قرأَ سورة مريم أَعطِي من الأَجر عشر حسنات، بعدد مَن صَدَّق بزكريّا، ويحيى، ومريمَ، وموسى، وعيسى وهارون، وإِبراهيم، وإِسحاق، ويعقوب، وإِسماعيل، عشر حسنات، وبعدد مَن دعا للهِ ولدًا، وبعدد مَن لم يَدْعُ له ولدًا، ويعطى بعددهم حسناتِ ودرجات، كلّ درجة منها كما بين السّماءِ والأَرض أَلف أَلفِ مرّة ويُزوّج بعددها في الفردوس، وحُشِر يوم القيامة مع المتَّقين في أَوّل زُمرة السّابقين". [٢] عن جعفر بن أبي طالب -رضي الله عنه- أَنّه قال: "من قرأَ هذه السّورة لا يموت ولا يخرج من الدّنيا حتى لا يصيب الفتنة في نفسه، وماله، وولده، وكان في الآخرة من أَصحاب عيسى بن مريم، وأُعطي من الأَجر كمُلْك سليمان بن داود". [٣] عن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- أنّ النّبيّ -صلّى الله عليه وسلّم- قال له: "يا عليّ مَن قرأَ ها يا ع ص أَعطاه الله من الثواب مثلَ ثواب أَيّوب ومريم، وله بكلِّ آية قرأَها ثوابُ شهيد من شهداءِ بدر".
فوائد قراءة سورة مريم جعل الله سبحانه وتعالى لكل سورة قرآنية سبب نزول وفضلًا خاصًّا لقراءتها ومن هذه السّور سورة مريم، وهي من السور المكية ، وهي التاسعة عشر في ترتيب سور القرآن الكريم، وهي السورة الرابعة والأربعون في ترتيب النزول، وقد نزلت سورة مريم قبل سورة طه وبعد سورة فاطر في السنة الرابعة من البعثة، وعدد آياتها تسعٌ وسبعون آية، وسُميت في كتب السنة وكتب التفسير بسورة مريم وذلك بسبب ذِكرها قصة مريم عليها السلام [١]. ومن فضائل سورة مريم ما قصه الإمام أحمد من حديث أم سلمة رضي الله عنها في قصة هجرتهم إلى الحبشة والنجاشي، وفيه أنه دعا أساقفته فنشروا ووزعوا مصاحفهم حوله، وقالوا لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه هل معك مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم من شيء؟ قال جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه عليّ، فَقَرَأَ عليْه صَدْرًا من (كهيعص) قالتْ: فَبَكَى واللهِ النَّجَاشِيُّ حتى أَخْضَلَ لِحْيَتَهُ وبَكَتْ أساقفته حينَ سَمِعوا ما تُليَ عليهم. ثُمَّ قال النَّجاشيُّ: إنَّ هذا واللهِ والَّذِي جَاءَ بِهِ موسى لَيَخْرُجُ من مِشْكَاةٍ واحِدَةٍ. [ الراوي مسلم|خلاصة حكم المحدث:صحيح] [١]. موضوعات سورة مريم اشتملت سورة مريم على ثلاثة مقاصد رئيسية، وهي: إثبات وحدانية الله سبحانه وتعالى، وإثبات البعث، وإثبات يوم القيامة، واشتملت إضافةً إلى هذه المقاصد الرئيسية، على الموضوعات الآتية [١]: حديث النبي زكريا ليحيى عليهما السلام بأن يجتهد ويحرص على ما علّمه الله سبحانه وتعالى من الكتاب، وأمر كافة المسلمين بأن يحرصوا على أمور الدين والدنيا باجتهاد.