", وتذكر الروايات أن الجلاس بن سويد تاب وندم وأصلح من حاله، وَكَانَ من تَوْبَته أَنه لم ينْزع من خير كَانَ يصنعه إِلَى عُمَيْر, قَالَ ابن سيرين: " لم يُرَ بعد ذلك من الجُلاَسِ شيءٌ يُكْره ". نعم؛ لقد قال عمير الحق الذي يدين الله به، وكانت صراحته ومحبته لرسوله الله وولاؤه لدينه سبباً في نجاته، وكان اعترافه أيضاً سبباً لتوبة عمه وندمه, وظلت أمانة عمير وصدقه محفوراً في وجدان الصحابة، قال عروة بن الزبير: " فما زال عمير في علياء بعد هذا حتى مات ". وبقي عمير بن سعد على حالة صالحة من الزهد والتعفف والقناعة، وشهد فتوح الشام في زمن أبي بكر وعمر, واستعمله عمر على حمص إلى أن مات عمير. وكان عمر يثقُ به، ويثني عليه ويقول: " بأنَّه نَسِيْجُ وَحْدِهِ "؛ أي: لا ثاني له ولا نظير, وكان عمر يقول أيضاً: " وددت أن لي رجالا مثل عمير بن سعد؛ أستعين بهم على أعمال المسلمين", وأخرج ابن مَنْده بسند حسن عن ابن عمر قال: "ما كان بالشام أفضل من عمير بن سعد ". تلك طرف من سيرة عمير، ومشهد سطره القرآن نصرة للصادقين, هَذَا، وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى نَبِيِّكُم؛ كَمَا أَمَرَكُمْ بِذلِكَ رَبُّكُمْ فَقَالَ: ( إِنَّ اللهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)[ الأحزاب: 56].
مصدر الموضوع الاصلي: عمير بن سعد ( نسيج وحده) رجال حول الرسول ( صلّى الله عليه وسلّم) عمير بن سعد ( نسيج وحده) أتذكرون سعيد بن عامر.. ؟؟ ذلك الزاهد العابد إلاوّاب الذي حمله أمير المؤمنين عمر على قبول إمارة الشام وولايتها.. لقد تحدثنا عنه في كتابنا هذا, ورأينا من زهده وترفعه, ومن ورعه العجب كله.. وها نحن أولاء, نلتقي على هذه الصفات بأخ له, بل توأم, في الورع وفي الزهد, وفي الترفع.. وفي عظمة النفس التي تجل عن النظير..!! إنه عمير بن سعد.. كان المسلمون يلقبونه نشيج وحده!! وناهيك برجل يجمع على تلقيبه بهذا اللقب أصحاب رسول الله, وبما معهم من فضل وفهم ونور..!! أبوه سعد القارئ رضي الله عنه.. شهد بدرا مع رسول الله والمشاهد بعدها.. وظلّ أمينا على العهد حتى لقي الله شهيدا في موقعة القادسية. ولقد اصطحب ابنه إلى الرسول, فبايع النبي وأسلم.. ومنذ أسلم عمير وهو عابد مقيم في محراب الله. يهرب من الأضواء, ويفيء إلى سكينة الظلال. هيهات أن تعثر عليه في الصفوف الأولى, إلا أن تكون صلاة, فهو يرابط في صفها الأول ليأخذ ثواب السابقين.. وإلا أن يكون جهاد, فهو يهرول إلى الصفوف الأولى, راجيا أن يكون من المستشهدين..!
عمير بن سعد معلومات شخصية مكان الميلاد المدينة المنورة تعديل مصدري - تعديل عمير بن سعد بن عبيد الأنصاري هو صحابي بايع النبي عندما كان غلامًا، وأبوه هو الصحابي الجليل سعد الذي شهد بدرا مع النبي محمد والمشاهد بعدها واستشهد في موقعة القادسية.
** ولقد جعل الله له في قلوب الأصحاب ود ا٬ فكان قرة أعينهم ومهوى أفئدتهم.. ذلم أن قوة ايمانه٬ وصفاء نفسه٬ وهدوء سمته٬ وعبير خصاله٬ واشراق طلعته٬ كان يجعله فرحة وبهجة لكل من يجالسه٬ أويراه. ولم يكن يؤثر على دينه أحدا٬ ولا شيئا. سمع يوما جلاس بن سويد بن الصامت٬ وكان قريبا له.. سمعه يوما وهو في دارهم يقول:" لئن كان الرجل صادقا٬ لنحن شر من الحمر". وكان يعني بالرجل رسول الله صلى الله عليه وسلم. وكان جلاس من الذين دخلوا الاسلام رهبا. سمع عمير بن سعد هذه العبارات ففجرت في نفسه الوديعة الهادئة الغيظ والحيرة.. الغيظ٬ لأن واحدا يزعم أنه من المسلمين يتناول الرسول بهذه اللهجة الرديئة.. والحيرة٬ لأن خواطره دارت سريعا على مسؤوليته تجاه هذا الذي سمع وأنكر.. ينقل ما سمع الى رسول الله؟؟ كيف٬ والمجالس بالأمانة.. ؟؟ أيسكت ويطوي صدره ما سمع؟ كيف وأين ولاؤه ووفاؤه للرسول الذي هداهم الله به من ضلالة٬ وأخرجهم من ظلمة. لكن حيرته لم تطل٬ فصدق النفس يجددائما لصاحبه مخرجا.. وعلى الفور تصر ف عمير كرجل قوي٬ وكمؤمن تقي.. فوجه حديثه الى جلاس بن سويد.. " والله يا جلاس٬ انك لمن أحب الناس الي٬ وأحسنهم عندي يدا٬ وأعزهم علي أن يصيبه شيء يكرهه.. ولقد قلت الآن مقالة لو أذعتها عنك لآذتك.. وان صمت عليها٬ ليهلكن ديني٬ وان حق الدين لأولى بالوفاء٬ واني مبلغ رسول الله ما قلت".
ذات يوم شهدت شوارع المدينة رجلا أشعث أغبر، تغشاه وعثاء السفر، يكاذ يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعا، من طول ما لاقى من عناء، وما بذل من جهد.. على كتفه اليمنى جراب وقصعة.. وعلى كتفه اليسرى قربة صغيرة فيها ماء..! وانه ليتوكأ على عصا، لا يؤدها حمله الضامر الوهنان..!! ودلف الى مجلس عمر فى خطى وئيدة.. السلام عليك يا امير المؤمنين.. ويرد عمر السلام، ثم يسأله، وقد آلمه ما رآه عليه من جهد واعياء: ما شأنك يا عمير.. ؟؟ شأني ما ترى.. ألست تراني صحيح البدن، طاهر الدم، معي الدنيا أجرّها بقرنيها.. ؟؟!! قال عمر: وما معك.. ؟ قال عمير: معي جرابي أحمل فيه زادي.. وقصعتي آكل فيها.. واداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي.. وعصاي أتوكأ عليها، وأجاهد بها عدوّا ان عرض.. فوالله ما الدنيا الا تبع لمتاعي..!! قال عمر: أجئت ماشيا.. عمير: نعم.. عمر: أولم تجد من يعطيك دابة تركبها.. ؟ عمير: انهم لم يفعلوا.. واني لم أسألهم.. عمر: فماذا عملت فيما عهدنا اليك به... ؟ عمير: أتيت البلد الذي يعثتني اليه، فجمعت صلحاء أهله، ووليتهم جباية فيئهم وأموالهم، حتى اذا جمعوها وضعوها في مواضعها.. ولو بقي لك منها شيء لأتيتك به..!! عمر: فما جئتنا بشيء.. ؟ عمير: لا.. فصاح عمر وهو منبهر سعيد: جدّدوا لعمير عهدا.. وأجابه عمير في استغناء عظيم: تلك أيام قد خلت.. لا عملت لك، ولا لأحد بعدك "..!!
هذه لصورة ليست سيناريو نرسمه، وليست حوارا نبتدعه.. انما هي واقعة تاريخية، شهدتها ذات يوم أرض المدينة عاصمة الاسلام في أيام خلده وعظمته. فأي طراز من الرجال كان أولئك الأفذاذ الشاهقون.. ؟!! وكان عمر رضي الله عنه يتمنى ويقول: " وددت لو أن لي رجالا مثل عمير أستعين بهم على أعمال المسلمين ".. ذلك أن عميرا الذي وصفه أصحابه بحق بأنه نسيج وحده كان قد تفوّق على كل ضعف انساني يسببه وجودنا المادي، وحياتنا الشائكة.. ويوم كتب على هذا القدّيس العظيم أن يجتاز تجربة الولاية والحكم، لم يزدد ورعه بها اا مضاء ونماء وتألقا.. ولقد رسم وهو أمير على حمص واجبات الحاكم المسلم في كلمات طالما كان يصدح بها في حشود المسلمين من فوق المنبر. وها هي ذي: " ألا ان الاسلام حائط منيع، وباب وثيق فحائط الاسلام العدل.. وبابه الحق.. فاذا نقض الحائط، وحطّم الباب، استفتح الاسلام. ولا يزال الاسلام منيعا ما اشتدّ السلطان.. وليست شدّة السلطان قتلا بالسيف، ولا ضربا بالسوط.. ولكن قضاء بالحق، وأخذا بالعدل "..!! والآن نحن نودّع عميرا.. ونجييه في اجلال وخشوع، تعالوا نحن رؤوسنا وجباهنا لخير المعلمين: محمد.. لامام المتقين: محمد.. لرحمة الله المهداة الى الناس في قيظ الحياة عليه من الله صلاته وسلامه.. وتحياته وبركاته.. وسلام على آله الآطهار.. وسلام على أصحابه الأبرار...
فاعترف الجلاس وقال: بل أتوب يارسول الله.. بل أتوب. وهنا توجه الرسول إلى الفتى عٌمير فإذا دموع الفرح تبلل وجهه المشرق، فمد الرسول يده الشريفة إلى أذنه وقال: وفت أذنك- ياغلام- ماسَمِعَت، وصدَّقكَ ربُك. توليه حمص [ عدل] حين تولى الفاروق عمر بن الخطاب الخلافة، وبدأ في اختيار ولاته وأمرائه، وفق دستوره الذي أعلنه في عبارته الشهيرة: أريد رجلاً إذا كان في القوم، وليس أميرًا عليهم بدا (ظهر) وكأنه أميرهم، وإذا كان فيهم وهو عليهم أمير، بدا وكأنه واحد منهم، أريد واليًا لا يميز نفسه على الناس في ملبس، ولا في مطعم، ولا في مسكن، يقيم فيهم الصلاة، ويقسم بينهم بالحق، ويحكم فيهم بالعدل، ولا يغلق بابه دون حوائجهم. وعلى هذا الأساس اختار عمر بن الخطاب عميرًا ليكون واليًا على حمص ، وحاول عمير أن يعتذر عن هذه الولاية، لكن عمر بن الخطاب ألزمه بها. ولقد عرف عمير مسؤولية الإمارة، ورسم لنفسه وهو أمير حمص واجبات الحاكم المسلم وقد خطب في أهل حمص قائلاً: ألا إن الإسلام حائط منيع، وباب وثيق، فحائط الإسلام العدل، وبابه الحق، فإذا نُقِضَ (هُدِمَ) الحائط، وخطم الباب، استفتح الإسلام، ولا يزال الإسلام منيعًا ما اشتد السلطان، وليست شدة السلطان قتلاً بالسيف، ولا ضربًا بالسوط، ولكن قضاءً بالحق، وأخذًا بالعدل.