فاعلم أنه لا إله إلّا الله " لٓا إِلٓهْ إِلٓا اللّٓهْ " هي كلمة التوحيد التي استنارت بها جزيرة العرب بنورها بعد أن كانت تتخبط في ظلمات هُبل واللاّت والعُزّٓى ومناة.. "لٓا إِلٓهْ إِلّٓا اللّٓهْ " لم تكن كلمة جوفاء خالية المعنى تنطق باللسان بدون أن تطبع في القلب آثاراً وبدون أن تقشعر منها الجلود وبدون أن ترتجف منها الأرواح خوفاً ورعباً.
وقيل: الخطاب له والمراد به الأمة ، وعلى هذا القول توجب الآية استغفار الإنسان لجميع المسلمين. وقيل: كان - عليه السلام - يضيق صدره من كفر الكفار والمنافقين ، فنزلت الآية أي: فاعلم أنه لا كاشف يكشف ما بك إلا الله ، فلا تعلق قلبك بأحد سواه. وقيل: أمر بالاستغفار لتقتدي به الأمة. وللمؤمنين والمؤمنات أي ولذنوبهم. وهذا أمر بالشفاعة. وروى مسلم عن عاصم الأحول عن عبد الله بن سرجس المخزومي قال: أتيت النبي - صلى الله عليه وسلم - وأكلت من طعامه فقلت: يا رسول الله ، غفر الله لك فقال له صاحبي: هل استغفر لك النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال: نعم ، ولك. ثم تلا هذه الآية: واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات ثم تحولت فنظرت إلى خاتم النبوة بين كتفيه ، جمعا عليه خيلان كأنه الثآليل. والله يعلم متقلبكم ومثواكم فيه خمسة أقوال: أحدها: يعلم أعمالكم في تصرفكم وإقامتكم. الثاني: متقلبكم في أعمالكم نهارا ومثواكم في ليلكم نياما. وقيل: متقلبكم في الدنيا. ومثواكم في الدنيا والآخرة ، قاله ابن عباس والضحاك. وقال عكرمة: متقلبكم في أصلاب الآباء إلى أرحام الأمهات. ومثواكم مقامكم في الأرض. وقال ابن كيسان: متقلبكم من ظهر إلى بطن الدنيا.
وقال الحسين بن الفضل: المعنى: فازدد علما على علمك. وقال السعدى في تفسيره: وهذا العلم الذي أمر الله به – وهو العلم بتوحيد الله- فرض عين على كل إنسان، لا يسقط عن أحد، كائنا من كان، بل كل مضطر إلى ذلك. والطريق إلى العلم بأنه لا إله إلا هو أمور: أحدها بل أعظمها: تدبر أسمائه وصفاته، وأفعاله الدالة على كماله وعظمته وجلالته فإنها توجب بذل الجهد في التأله له، والتعبد للرب الكامل الذي له كل حمد ومجد وجلال وجمال. الثاني: العلم بأنه تعالى المنفرد بالخلق والتدبير، فيعلم بذلك أنه المنفرد بالألوهية. الثالث: العلم بأنه المنفرد بالنعم الظاهرة والباطنة، الدينية والدنيوية، فإن ذلك يوجب تعلق القلب به ومحبته، والتأله له وحده لا شريك له. الرابع: ما نراه ونسمعه من الثواب لأوليائه القائمين بتوحيده من النصر والنعم العاجلة، ومن عقوبته لأعدائه المشركين به، فإن هذا داع إلى العلم، بأنه تعالى وحده المستحق للعبادة كلها. الخامس: معرفة أوصاف الأوثان والأنداد التي عبدت مع الله، واتخذت آلهة، وأنها ناقصة من جميع الوجوه، فقيرة بالذات، لا تملك لنفسها ولا لعابديها نفعا ولا ضرا، ولا موتا ولا حياة ولا نشورا، ولا ينصرون من عبدهم، ولا ينفعونهم بمثقال ذرة، من جلب خير أو دفع شر، فإن العلم بذلك يوجب العلم بأنه لا إله إلا هو وبطلان إلهية ما سواه.
فالإيمان ب "لٓا إِلٓهْ إِلّٓا اللّٓهْ " بالقلب فحسب خدعة وافتراء على الله، بل الإيمان يتولد عنه عملا {إِ نَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا}. لا يمكن الفصل بين الإيمان والعمل كما لا يمكن الفصل بين أفكارنا التي نؤمن بها وسعينا لتحقيقها، فكل فكرة نؤمن بها نحاول أن نجعلها واقعا يعاش. فكذلك " لٓا إِلٓهْ إِلّٓا اللّٓهْ " فهي تصديقا بالقلب وقولا باللسان وعملا بالجوارح. ما تخلفت الأمة الإسلامية عن موكب الحضارة والتقدم إلا بعد أن انحرفت عن "لٓا إِلٓهْ إِلّٓا اللّٓهْ " ومقتضياتها، بعد أن تخلّت عن معاني التوحيد تخلى الله عنها وجعلها من المخلفين.
قال الله تعالى: ﴿وتَزَوَدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقوَى﴾ وسبيلُ التَّقْوَى هُوَ العِلمُ، لأنَّ اللهَ تباركَ وتَعَالى إِذَا أَرَادَ بِعَبَدٍ خَيرًا فَقَّههُ في الدِّينِ أي رَزَقَهُ العِلمَ بِأُمُورِ دِينِه، رَزَقَهُ المعرفةَ بما فَرَضَ اللهُ عَلَيْهِ أَنْ يُؤَدِيَهُ وَيَفْعَلَهُ، وَرَزَقَهُ مَعْرِفَةَ مَا أَمَرَ بِاجتِنَابِه وَحَرَّمَهُ. فَلا فَلاحَ إلا بِعِلمِ أُمُورِ الدِّينِ.
وقال السدي: متقلبكم في الدنيا ، ومثواكم في قبوركم. والأول أولى وأظهر ، والله أعلم.
كما أنتج لنا تطور علوم الحساب والفلك والهندسة والطب والجغرافيا، فازدهرت حياة الناس وسعدوا بالخيرات. وما تزال آثار الحضارة الإسلامية منتشرة في أرجاء المعمورة شاهدة على أن المسلمين كلما تعلموا وعملوا فإنهم يتفوقون وينجحون كما نجح سلفنا الصالح. وقوله تعالى: "واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات" فيه إرشاد وتنبيه لضعف الإنسان وحاجته الدائمة لرحمة ومغفرة الله عز وجل، لأن الإنسان مهما بذل من وسعه في عبادة وطاعة ربه، يبقى مقصراً؛ لعظيم فضل الله عليه بالصحة والمال والإيمان والرحمة في الدنيا، وعظيم الثواب والجزاء في الآخرة. وفي الآية حث على التعاون والتكاتف، وأن الاجتماع وحب الخير للآخرين هو الأساس الذي تسعد به البشرية، وليس الفردية والأنانية التي أصبحت تطغى على حياة الناس بتأثير الحداثة ومنتجاتها، مما زادت معها الأمراض النفسية من الكآبة والقلق والتوحد، وزادت معها الظواهر الاجتماعية السلبية من ضعف علاقات الجوار والروابط العائلية وتفتت المجتمع. معرفة التوحيد والالتزام به علما وعملاً وتبليغاً، هو السبيل للسعادة في الدنيا والنعيم في الآخرة، وهو الذي يعطي الحياة بهجة وحبورا ويعين على مصاعبها ومتاعبها.