وهذا هو معنى فطرية معرفة وجود الله! وقد يعترض بعض الناس بأن هذا ليس مطردا في تاريخ الإنسانية، بدليل ما نراه في هذا العصر من كثرة الملاحدة اللادينيين! والجواب: أن الكثرة لا تعني الأكثرية، فهم كثيرون حقا – لأسباب مختلفة – لكنهم مع ذلك أقلية إن قورنوا بالمتدينين. فالإلحاد يبقى إذن استثناء مخالفا للأصل في البشر، وهو لذلك يحتاج إلى البحث في أسبابه، كما يبحث في سبب كل ما يخالف الأصل المستقر. البرهان الثاني: أن بني آدم أجمعين لهم شعور يشتركون فيه، هو اللجوء إلى الخالق سبحانه عند الشدائد. وجود الله.. كيف أثبته المسلمون بالعقل؟! - تبيان. فالإنسان ولو كان مشركا يفزع عند المصيبة إلى ربه سبحانه، ويلتجئ إليه وحده دون غيره من المعبودات الباطلة، بل إن اعتداده بنفسه وقدراته الشخصية يتزعزع عند الحاجة، ويشعر في قرارة قلبه بافتقاره إلى ربه، وإن أظهر غير ذلك دفعا للحرج، واعتزازا بالإثم. وقد قرر القرآن الكريم هذا المعنى في قوله تعالى: { وإذا مس الإنسان الضر دعانا لجنبه أو قاعدا أو قائما، فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه. كذلك زين للمسرفين ما كانوا يعملون} (يونس:12). فرجوع الإنسان إلى ربه سبحانه عند الشدة، برهان جلي على أن فطرته مقرة بوجود الله وربوبيته، وإن أظهر حال الرخاء عكس ذلك.
ومَن خلقه؟! وبالقطع السؤال يُفسِد نفسَه بمُجرَّد قراءته: مَن خلق الله؟ لا إجابة عنه لسبب بسيط جدًّا هو أنَّ "الله" ليس مخلوقًا أصلًا لنبحث له عن خالق بل هو خالق كلّ شيء، و"الله" ليس موجودًا كبقيَّة الموجودات لنبحث له عن مُوجِد فالسؤال فاسد أصلاً وفرعًا.. وهذا يقودنا إلى الدليل الثاني الذي يعتمد على مبدأ "السببيَّة"؛ وهي أنَّ الكائنات وأفعالها التي على قيد الحياة -إنسانًا أو غيره- مُمكنة الحدوث. دعونا نشرح الأمر بمثال تبسيطيّ: مثلًا: أنتَ في يومك من المُمكن أنْ تذهب إلى العمل ومن المُمكن ألَّا تذهب، من المُمكن أنْ تشرب قهوة ومن المُمكن ألَّا تشرب، من المُمكن أنْ تُحادث صديقك ومن المُمكن ألَّا تُحادثه. كلُّ هذه تسمى "أحداثًا مُمكِنة الحدوث". والأحداث مُمكنة؛ بمعنى أنَّك مُمكن أنْ تفعلها، ومُمكن ألَّا تفعلها. اُريد اثبات الوجود الله ؟. فمَن أحدثها ومَن أمكَنَ حدوثَها؟ إنَّه قرارُك بإحداثها. فكذلك الكون نرى كلَّ ما فيه مُمكن الحدوث أيْ من المُمكن أنْ يقع ومن المُمكن ألَّا يقع، بدليل فنائه أمام أعيننا. وذلك يقودنا إلى أنَّ هناك مُرجِّحًا لهذا الكون هو مَن أحدث هذا المُمكن وجعله يحدث بإرادة مُنفردة منه وهو "الله". يجب أنْ تنتهي هذه المُمكنات إليه؛ حيث كانَ مُوجِدَها جميعًا، لكنَّه غير مُمكن الوجود، بل هو "واجب الوجود"؛ أيْ إنَّ وجوده ثابت له، غير آتٍ من أيّ سبب آخر، بل هو سبب في وجود كلّ هذه المُمكنات.
ولكنْ لمْ يكُن اعتمادهم على العقل وحده دون هدى من كلام "الله" -تعالى-، بل دارت هذه المعركة من وحي "القرآن"، وانطلاقًا منه كما دارت كلّ آيات الإسلام الباهرة حوله تستمد منه ومن السُّنة النبويَّة المُطهَّرة. وسنطِّلع سويًّا الآن على التوجيه القُرآنيّ في الإثبات، ثمّ على الأدلَّة المُستقاة منه باختصار وبشرح مُبسَّط قدر الإمكان. دون الدخول فيمَن أتى بها، أو في تاريخها وتطوُّرها. لتكون أمام جمهور المسلمين تقوِّي فكرهم أمام عالَم الفتن الأعظم الذي نشهده جميعًا الآن. إثبات وجود الله من القرآن الكريم اعتمدتْ جهود المُسلمين ومُفكِّريهم على "القرآن الكريم" نفسه، وما جاء في آياته من أدلَّة باهرة على وجود "الله". وأعادوا صياغتها بصور مُختلفة، وأخرجوا منها أدلَّة متنوعة -أصيلة وفرعيَّة- تؤكد كلَّ التأكيد أمر وجود "الله". من أدلة وجود الله دليل العناية ودليل الخلق. وباختصار تعتمد الآيات القرآنيَّة في هذه المسألة إمَّا على أدلَّة عقليَّة خالصة، وإمَّا على أدلَّة الكون الظاهرة أمام الأعيُن -ولذلك أمر الله تعالى بالتدبُّر في الكون والتأمُّل فيه-. والكون يُعرف في الكثير من الكُتُب الإسلاميَّة بكتاب الله المنظور، خلاف كتاب الله المسطور (القرآن الكريم).
يدلّ هذا الموت الذي يلحق كلّ الكائنات عقلاً أنَّ هناك مُؤقِّتًا لهذا الموت يضع له ميقاته المُعيَّن المُحدَّد، وهناك واهب حياة هو الذي يقدر على سلبها كما وهبها. هذا المُدبِّر المُؤقِّت هو وحده الذي لا يموت ولا يفنى. فضلاً عن أنَّ وجود الموت نفسه يشير إلى أنَّ للإنسان مهمة ولكلّ مخلوق يدركه الموت مهمة خُلق من الأصل ليقوم بها. 5. وهنا يتأمل المفكرون في الكون فيجدون أنَّه مُرتَّب مُنظَّم تمامًا. وأنَّ ترتيبه وتنظيمه لا بُدَّ يدلُّ على وجود مُرتِّب ومُنظِّم له، قام بهذا الترتيب والتنظيم. فلا يمكن تصوُّر التنظيم بلا مُنظِّم وضع هذا النظام، وهو يقوم على شئونه. فمثلًا: إذا دخلتَ غرفتك فوجدتها مُرتَّبةً مُنظَّمةً، وقد تركتَها على غير هذا الوضع. لا تتعجب ولا يثيرك هذا؛ لأنَّك تعرف أنَّ لك أمًّا أو زوجةً أو أخًا أو.. قد صنع هذا. لذلك عندما نرى الكون مُرتَّبًا مُنظَّمًا لا بُدَّ أنْ نعرف أنَّ هناك سببًا لترتيبه؛ هو "الله".. وهذا "برهان الترتيب". أدلة إثبات وجود الله | معرفة الله | علم وعَمل. 6. ولكنْ إذا أمعنَّا النظر إلى هذا الترتيب في الكون سنجد عنايةً خاصةً بالإنسان عن باقي الكائنات. فالإنسان خُلق وهو ضعيف هزيل. ولكن خُلقتْ له غريزة أمومة وأبوُّة في أبوَيْه يشدُّان -مدفوعَيْن بتلك الغريزة- من أزره حتى يقوى، وخُلق معه العقل الذي يستخدمه ليسخِّر العالَم ويفهمه.