واختلف أهل العربية في الرافع أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة، فقال بعض نحويي البصرة: خبر قوله: (فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ * وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) قال: ويقول زيد: ما زيد، يريد: زيد شديد. وقال غيره: قوله: (مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) لا تكون الجملة خبره، ولكن الثاني عائد على الأوّل، وهو تعجب، فكأنه قال: أصحاب الميمنة ما هم، والقارعة ما هي، والحاقة ما هي؟ فكان الثاني عائد على الأوّل، وكان تعجبا، والتعجب بمعنى الخبر، ولو كان استفهاما لم يجز أن يكون خبرا للابتداء، لأن الاستفهام لا يكون خبرا، والخبر لا يكون استفهاما، والتعجب يكون خبرا، فكان خبرا للابتداء. وقوله: زيد وما زيد، لا يكون إلا من كلامين، لأنه لا تدخل الواو في خبر الابتداء، كأنه قال: هذا زيد وما هو: أي ما أشدّه وما أعلمه. واختلف أهل التأويل في المعنيين بقوله: (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) فقال بعضهم: هم الذين صلوا للقبلتين. حدثنا ابن حُميد، قال: ثنا مهران، عن سفيان، عن خارجة، عن قرة، عن ابن سيرين (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) الذين صلوا للقبلتين. القرآن الكريم - تفسير القرآن العظيم لابن كثير - تفسير سورة الواقعة - الآية 7. وقال آخرون في ذلك بما حدثني عبد الكريم بن أبي عمير، قال: ثنا الوليد بن مسلم، قال: ثنا أبو عمرو، قال: ثنا عثمان بن أبي سودة، قال (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) أوّلهم رواحا إلى المساجد، وأسرعهم خفوقا في سبيل الله.
وقال الإمام أحمد: حدثنا محمد بن عبد الله بن المثنى, حدثنا البراء الغنوي, حدثنا الحسن عن معاذ بن جبل أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الاية " وأصحاب اليمين ما أصحاب اليمين " " وأصحاب الشمال ما أصحاب الشمال " فقبض بيده قبضتين فقال: "هذه للجنة ولا أبالي وهذه للنار ولا أبالي" وقال الإمام أحمد أيضاً: حدثنا حسن: حدثنا ابن لهيعة, حدثنا خالد بن أبي عمران عن القاسم بن محمد عن عائشة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أتدرون من السابقون إلى ظل الله يوم القيامة ؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. إسلام ويب - تفسير الطبري - تفسير سورة الواقعة - القول في تأويل قوله تعالى " وكنتم أزواجا ثلاثة "- الجزء رقم23. قال: الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سئلوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم" وقال محمد بن كعب وأبو حرزة ويعقوب بن مجاهد "والسابقون السابقون" هم الأنبياء عليهم السلام. وقال السدي: هم أهل عليين, وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد عن ابن عباس "والسابقون السابقون" قال: يوشع بن نون, سبق إلى موسى ومؤمن آل يس, سبق إلى عيسى وعلي بن أبي طالب سبق إلى محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم. رواه ابن أبي حاتم عن محمد بن هارون الفلاس عن عبد الله بن إسماعيل المدائني البزار, عن شعيب بن الضحاك المدائني عن سفيان بن عيينة عن ابن أبي نجيح به.
وقوله تعالى: "خافضة رافعة" أي تخفض أقواماً إلى أسفل سافلين إلى الجحيم, وإن كانوا في الدنيا أعزاء, وترفع آخرين إلى أعلى عليين إلى النعيم المقيم, وإن كانوا في الدنيا وضعاء, هكذا قال الحسن وقتادة وغيرهما. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي حدثنا يزيد بن عبد الرحمن بن مصعب المعني, حدثنا حميد بن عبد الرحمن الرؤاسي عن أبيه عن سماك عن عكرمة عن ابن عباس "خافضة رافعة" تخفض أقواماً وترفع آخرين,, وقال عبيد الله العتكي عن عثمان بن سراقة ابن خالة عمر بن الخطاب "خافضة رافعة" قال: الساعة خفضت أعداء الله إلى النار ورفعت أولياء الله إلى الجنة. القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة الواقعة - الآية 8. وقال محمد بن كعب: تخفض رجالاً كانوا في الدنيا مرتفعين, وترفع رجالاً كانوا في الدنيا مخفوضين, وقال السدي: خفضت المتكبرين ورفعت المتواضعين, وقال العوفي عن ابن عباس "خافضة رافعة" أسمعت القريب والبعيد, وقال عكرمة: خفضت فأسمعت الأدنى, ورفعت فأسمعت الأقصى, وكذا قال الضحاك وقتادة. وقوله تعالى: "إذا رجت الأرض رجاً" أي حركت تحريكاً فاهتزت واضطربت بطولها وعرضها, ولهذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد في قوله تعالى: "إذا رجت الأرض رجاً" أي زلزلت زلزالاً, وقال الربيع بن أنس: ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه, وهذا كقوله تعالى: "إذا زلزلت الأرض زلزالها" وقال تعالى: "يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم".
وقال ابن جريج: أصحاب الميمنة هم أهل الحسنات ، وأصحاب المشأمة هم أهل السيئات. وقال الحسن والربيع: أصحاب الميمنة الميامين على أنفسهم بالأعمال الصالحة ، وأصحاب المشأمة المشائيم على أنفسهم بالأعمال السيئة القبيحة. وفي صحيح مسلم من حديث الإسراء عن أبي ذر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فلما علونا السماء الدنيا فإذا رجل عن يمينه أسودة وعن يساره أسودة - قال - فإذا نظر قبل يمينه ضحك وإذا نظر قبل شماله بكى - قال - فقال مرحبا بالنبي الصالح والابن الصالح - قال - قلت: يا جبريل من هذا قال هذا آدم عليه السلام وهذه الأسودة التي عن يمينه وعن شماله نسم بنيه فأهل اليمين أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار وذكر الحديث. وقال المبرد: وأصحاب الميمنة أصحاب التقدم ، وأصحاب الشأمة أصحاب التأخر. والعرب تقول: اجعلني في يمينك ولا تجعلني في شمالك ، أي: اجعلني من المتقدمين ولا تجعلنا من المتأخرين. والتكرير في ما أصحاب الميمنة و ما أصحاب المشأمة [ ص: 181] للتفخيم والتعجيب ، كقوله: الحاقة ما الحاقة و القارعة ما القارعة كما يقال: زيد ، ما زيد! وفي حديث أم زرع رضي الله عنها: مالك وما مالك! والمقصود تكثير ما لأصحاب الميمنة من الثواب ولأصحاب المشأمة من العقاب.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن الصباح ، حدثنا الوليد بن أبي ثور ، عن سماك ، عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ( وإذا النفوس زوجت) [ التكوير: 7] قال: الضرباء ، كل رجل من قوم كانوا يعملون عمله ، وذلك بأن الله يقول: ( وكنتم أزواجا ثلاثة فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة والسابقون السابقون) قال: هم الضرباء.
يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الواقعة: (وكنتم أزواجاً ثلاثة * فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة * وأصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة * والسابقون السابقون أولئك المقربون). جاء في مختصر ابن كثير رحمه الله: أي ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف: قوم عن يمين العرش، وهم الذين يؤتون كتبهم بأيمانهم، وهم جمهور أهل الجنة، وآخرون عن يسار العرش، وهم الذين يؤتون كتبهم بشمالهم ويؤخذ بهم ذات الشمال وهم عامة أهل النار، وطائفة سابقون بين يديه عزَّ وجلَّ وهم أحظى وأقرب من أصحاب اليمين، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء، وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى: (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات بإذن اللّه). وقال ابن عباس (وكنتم أزواجاً ثلاثة) قال: هي التي في سورة الملائكة (ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا) الآية. وقال يزيد الرقاشي: سألت ابن عباس عن قوله: (وكنتم أزواجاً ثلاثة) قال: أصنافاً ثلاثة، وقال مجاهد: (وكنتم أزواجاً ثلاثة) يعني فرقاً ثلاثة، وقال ميمون بن مهران: أفواجاً ثلاثة، اثنان في الجنة وواحد في النار، قال مجاهد: (والسابقون السابقون) هم الأنبياء عليهم السلام، وقال السدي: هم أهل عليين، وقال ابن سيرين (والسابقون السابقون) الذين صلوا إلى القبلتين، وقال الحسن وقتادة: (والسابقون السابقون) أي من كل أمة، وقال الأوزاعي، عن عثمان بن أبي سودة، أنه قرأ هذه الآية (والسابقون السابقون أولئك المقربون) ثم قال: أولهم رواحاً إلى المسجد، وأولهم خروجاً في سبيل اللّه.
⁕ حدثنا بشر، قال: ثنا يزيد، قال: ثنا سعيد، عن قتادة، قوله: ﴿فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ﴾: أي ماذا لهم، وماذا أعد لهم ﴿وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ﴾: أي ماذا لهم وماذا أعد لهم ﴿وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ﴾: أي من كل أمة. ⁕ حدثنا يونس، قال: أخبرنا ابن وهب، قال: سمعت ابن زيد يقول: وجدت الهوى ثلاثة أثلاث، فالمرء يجعل هواه علمه، فيديل هواه على علمه، ويقهر هواه علمه، حتى إن العلم مع الهوى قبيح ذليل، والعلم ذليل، الهوى غالب قاهر، فالذي قد جعل الهوى والعلم في قلبه، فهذا من أزواج النار، وإذا كان ممن يريد الله به خيرا استفاق واستنبه، فإذا هو عون للعلم على الهوى حتى يديل الله العلم على الهوى، فإذا حسنت حال المؤمن، واستقامت طريقه كان الهوى ذليلا وكان العلم غالبا قاهرا، فإذا كان ممن يريد الله به خيرا، ختم عمله بإدالة العلم، فتوفاه حين توفاه، وعلمه هو القاهر، وهو العامل به، وهواه الذليل القبيح، ليس له في ذلك نصيب ولا فعل. والثالث: الذي قبح الله هواه بعلمه، فلا يطمع هواه أن يغلب العلم، ولا أن يكون معه نصف ولا نصيب، فهذا الثالث، وهو خيرهم كلهم، وهو الذي قال الله عزّ وجلّ في سورة الواقعة: ﴿وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلاثَةً﴾ قال: فزوجان في الجنة، وزوج في النار، قال: والسابق الذي يكون العلم غالبا للهوى، والآخر: الذي ختم الله بإدالة العلم على الهوى، فهذان زوجان في الجنة، والآخر: هواه قاهر لعلمه، فهذا زوج النار.