ورجعت المفرزة وقد أصيب الحارث بن أوس بذُبَاب بعض سيوف أصحابه فجرح ونزف الدم، فلما بلغت المفرزة حَرَّة العُرَيْض رأت أن الحارث ليس معهم، فوقفت ساعة حتي أتاهم يتبع آثارهم، فاحتملوه، حتي إذا بلغوا بَقِيع الغَرْقَد كبروا، وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم تكبيرهم، فعرف أنهم قد قتلوه، فكبر، فلما انتهوا إليه قال: ( أفلحت الوجوه)، قالوا: ووجهك يا رسول الله ، ورموا برأس الطاغية بين يديه، فحمد الله على قتله، وتفل علي جرح الحارث فبرأ، ولم يؤذ بعده. ولما علمت اليهود بمصرع طاغيتها كعب بن الأشرف دب الرعب في قلوبهم العنيدة، وعلموا أن الرسول صلى الله عليه وسلم لن يتوانى في استخدام القوة حين يري أن النصح لا يجدي نفعاً لمن يريد العبث بالأمن وإثارة الاضطرابات وعدم احترام المواثيق، فلم يحركوا ساكناً لقتل طاغيتهم، بل لزموا الهدوء، وتظاهروا بإيفاء العهود، واستكانوا، وأسرعت الأفاعي إلى جحورها تختبئ فيها . وهكذا تفرغ الرسول صلى الله عليه وسلم ـ إلي حين ـ لمواجهة الأخطار التي كان يتوقع حدوثها من خارج المدينة، وأصبح المسلمون وقد تخفف عنهم كثير من المتاعب الداخلية التي كانوا يتوجسونها، ويشمون رائحتها بين آونة وأخري .
لم تكن الحياة سهلة، فبعد هزيمة الكفار فى معركة بدر لم يهدأوا، بل كانوا غاضبين، وقد ساعدهم البعض فى الاستعداد لمحاربة النبى مرة أخرى، ومن هؤلاء كعب بن الأشرف.. فما الذي يقوله التراث الإسلامى؟ يقول كتاب البداية والنهاية لـ الحافظ ابن كثير تحت عنوان "مقتل كعب بن الأشرف": وكان من بنى طىء، ثم أحد بنى نبهان، ولكن أمه من بنى النضير، هكذا ذكره ابن إسحاق قبل جلاء بنى النضير، وذكره البخارى والبيهقى بعد قصة بنى النضير، والصحيح ما ذكره ابن إسحاق لما سيأتي: فإن بنى النضير إنما كان أمرها بعد وقعة أحد، وفى محاصرتهم حرمت الخمر كما سنبينه بطريقه إن شاء الله. قال البخارى فى صحيحه، باب قتل كعب بن الأشرف: حدثنا على بن عبد الله، حدثنا سفيان قال عمرو بن دينار: سمعت جابر بن عبد الله يقول: قال رسول الله ﷺ: "من لكعب بن الأشرف فإنه قد أذى الله ورسوله" فقام محمد بن مسلمة فقال: يا رسول الله أتحب أن أقتله؟ قال: نعم. قال: فأذن لى أن أقول شيئا، قال: قل فأتاه محمد بن مسلمة فقال: إن هذا الرجل قد سألنا صدقة، وإنه قد عنانا، وإنى قد أتيتك أستسلفك. قال: وأيضا، والله لتملنه. قال: أنا قد اتبعناه فلا نحب أن ندعه حتى ننظر إلى أى شىء يصير شأنه، وقد أردنا أن تسلفنا.