فمن باب أولى لو كان في القرآن الكريم خطأ أن يسارع مشركو قريش فينكروا على النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخطأ ويُعَايِرُونَهُ به. فلم نسمع أبدًا في تاريخ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أن أحد المشركين قال: إنَّ محمدًا يلحن ويخطئ في اللغة العربية! بل على العكس، لقد مدحوا القرآن الكريم بأجمل الألفاظ. تفسير قوله تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}. فقال أحد أكابرهم وهو الوليد بن المغيرة عن القرآن الكريم: [ وَاللهِ، إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلا، وَأَنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ]. دلائل النبوة للبيهقي ج2 ص198، ط دار الكتب العلمية – بيروت. فكيف صار الحال الآن بالأعاجم الذين لا يستطيعون القراءة أن يزعموا وجود خطأ لغوي في القرآن الكريم ؟؟ ثانيا: هل نزل القرآن الكريم قبل تأسيس قواعد اللغة العربية وتقعيد قواعدها أم أن ذلك قد حدث بعد نزول القرآن ؟؟ طبعا وبلا خلاف أنَّ قواعد اللغة العربية إنما استقاها العلماء وأخذوها من آيات القرآن الكريم الذي نزل موافقًا للغة العرب من شعر العربي وكلام العرب. فلو كان هناك خطأ؛ فسيكون هذا الخطأ في القاعدة التي استنبطها العلماء, ويستحيل أنْ يكون الخطأ في القرآن الكريم بناءً على ما قررناه في أولا.
وهذا المسلك هو من أقوى مسالك النحاة في توجيه الآية. وثمة توجيه آخر للآية حاصله، أن هذا من باب الاستغناء بأحد المذكورين عن الآخر، لكونه تبعًا له، ومعنًى من معانيه؛ فإذا ذُكر أغنى عن ذكره، لأنه يُفهم منه. ومنه على أحد الوجوه قوله تعالى: { إن نشأ ننـزل عليهم من السماء آية فظلت أعناقهم لها خاضعين} (الشعراء:4) فاستغني عن خبر (الأعناق) بالخبر عن أصحابها. ومنه أيضاً في وجه، قوله تعالى: { والله ورسوله أحق أن يرضوه} (التوبة:62) فالمعنى عليه: والله أحق أن يرضوه، ورسوله كذلك. فاستغنى بإعادة الضمير إلى الله، إذ إرضاؤه هو، إرضاء لرسوله، فلم يحتج أن يقول: يرضوهما. فعلى هذا، يكون الأصل في الآية: إن الله قريب من المحسنين، وإن رحمة الله قريبة من المحسنين. فاستُغْنيَ بخبر المحذوف عن خبر الموجود، وسوَّغ ذلك ظهور المعنى. وقريب من هذا، ما ذكره ابن القيم ، قال -رحمه الله-: "إن الرحمة صفة من صفات الرب تبارك وتعالى، والصفة قائمة بالموصوف لا تفارقه؛ لأن الصفة لا تفارق موصوفها، فإذا كانت رحمته سبحانه قريبة من المحسنين، فالموصوف تبارك وتعالى أولى بالقرب منها، بل قرب رحمته تعالى تَبَعٌ لقربه هو من المحسنين. وقد تقدم في أول الآية، إن الله تعالى قريب من أهل الإحسان بإثابته، ومن أهل السؤال بإجابته.
قالوا: ويدل لهذا التوجيه، قوله تعالى: { وما يدريك لعل الساعة قريب} (الشورى:17) وأيضاً قوله سبحانه: { وما يدريك لعل الساعة تكون قريبا} (الأحزاب:63) ومن هذا القبيل، قول امرئ القيس: له الويل إن أمسى ولا أم هاشم قريب ولا البسباسة ابنة يشكرا فذكَّر (قريب) مع أنه صفة لمؤنث، باعتبار أن القرابة قرابة مكانية لا نَسَبِيَّة. ومنه أيضاً، قول عروة بن الورد: عشية لا عفراء منك قريبة فتدنو ولا عفراء منك بعيد فأنَّث (قريبة) وذكَّر (بعيداً) على ما تقدم. ولو كان القريب، من القرابة في النسب، لم يكن مع المؤنث إلا مؤنثاً. فهذا التوجيه الأول للآية. التوجيه الثاني قولهم: إن صيغة (فعيل) تأتي على ضَربين، أحدهما: بمعنى (فاعل) كقدير، وسميع، وعليم. والثاني: تأتي بمعنى (مفعول) كقتيل، وجريح، وكحيل؛ كله بمعنى (مفعول). فإذا أتت بمعنى (فاعل) فحقُّها إلحاق تاء التأنيث مع المؤنث دون المذكر؛ كجميل وجميلة، وشريف وشريفة، وصبيح وصبيحة، وصبي وصبية، ومليح ومليحة، وطويل وطويلة ونحو ذلك. وإذا أتت بمعنى (مفعول) فلا تخرج عن حالين: إما أن تكون الصفة مصاحبة للموصوف، أو منفردة عنها؛ فإن كانت الصفة مصاحبة للموصوف، استوى فيها المذكر والمؤنث؛ تقول: رجل قتيل، وامرأة قتيل، ورجل جريح، وامرأة جريح؛ وإن لم تكن الصفة مصاحبة للموصوف، فإنها تؤنث، إذا جرت على المؤنث، نحو قتيلة بني فلان.
وقد تعددت الروايات الواردة في هذا الشأن، وقد كان وصف أم جميل في القرآن الكريم بحمالة الحطب، وقصتها تحمل الكثير من العبر والعظة والمتضمنة العاقبة الناتجة من التسبب في الإيذاء. إلى هنا نكون قد أجبنا على لماذا سمي ابو لهب بهذا ال ا سم وبينّا بالاستشهاد السبب في الوعيد له بالآيات القرآنية، ومن الهام أن نتعرف على القصص الدينية لأخذ العظة والاعتبار بها.
[٣] وفاة أبو لهب ولد أبو لهب في مكة المكرمة وتوفي فيها، وقد كان معروفًا عنه بأنه رجلٌ ذو قلب غليظ، يتميز بالشدة والحدة والصرامة، وهو رجل طويل فارع، ذو صوت جهور، يتميز بشدة وسرعة غضبه، [١] فبعد واقعة بدر المشهورة بسبعة أيام مرض أبو لهب بمرض يدعى بالعدسة، وهو مرض شبيه بالطاعون، فاجتمع عليه العذاب النفسي والجسدي، فبقي ثلاثة أيام لا يجرؤ أحد على الاقتراب منه حتى ابنائه إلى أن أصبحت جثته نتنة، وعندما خشي ابناؤه العار قذفوا الماء عليه دون لمسه، ثم نقلوه إلى أعلى جدار في مكة وقذفوه بالحجارة حتى دفنوه تحتها دون أن يجرؤ أحدهم على لمسه. [٢] أعمال أبو لهب ضدّ الإسلام لقد كان أبو لهب من جبابرة وصناديد قريش، ومن أكثرهم عداوة للنبي محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم وللدين الإسلامي الحنيف، بل وأكثرهم أذى للنبي محمد وزوجته أم جميل كذلك، فقد كانت الآمرة بأذيته عليه الصلاة والسلام، فكانت تضع الأشواك والقاذورات والحسك في طريق النبي محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم، وبالتالي ليس من الغريب أن يُنزل الله سبحانه وتعالى فيهم سورة المسد، وتوجد الكثير من صور الإيذاء الأخرى التي أذوا بها النبي محمد عليه الصلاة والسلام، وقد كانت عداوتهم مبكرة للنبي محمد صلى الله عليه وسلم حتى منذ أن أعلن الدعوة الإسلامية وجهر بها.
الإساءة للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليست وليدة اليوم، ولكنها حرب قديمة، ضاربة في أغوار تاريخ الدعوة، أستاذها الأول: أبو جهل، ونائبه: أبو لهب، ومساعدوهم كثر، كالوليد بن المغيرة والأسود بن عبد يغوث، والأسود بن المطلب، والعاص بن وائل، وعتبة وشيبة ابني ربيعة… وغيرهم كثير. ثم استمرت الحرب في المدينة رافعاً لواءها رأس النفاق عبد الله بن سلول، ويعاونه شرذمة ممن طمس الله على قلوبهم من المنافقين والضالين. وكما استمر الاستهزاء في حياة النبي صلى الله عليه وسلم بقي كذلك بعد مماته، ويؤكد ذلك قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112) وقوله: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً) (الفرقان:31). يقول أحد المفكرين العرب: قدرنا أن يكون لكل نبي عدوه من شياطين الإنس والجن. وقدرنا أن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول ليخدعوهم به ويغروهم بحرب الرسل وحرب الهدى، وقدرنا أن تصغي إلى هذا الزخرف أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة، ويرضوه، ويقترفوا ما يقترفونه من العداوة للرسل وللحق ومن الضلال والفساد في الأرض… كل ذلك إنما جرى بقدر الله وفق مشيئته، ولو شاء ربك ما فعلوه، ولمضت مشيئته بغير هذا كله، ولجرى قدره بغير هذا الذي كان.