و من خلاصة تفسير سورة القدر إرشادات كثيرة يمكن استنباطها، منها: 1 – مشروعية الاهتمام بالأيام الفضيلة وأيام النعم لاسيما الديني منها، فينبغي أن تعد ليلة القدر عيد نزول القرآن، وفي هذا أصل لإقامة الحفلات لإحياء ذكريات أيام مجد الإسلام وفضله. 2 – حض المسلم على عمل الطاعات وتحري الأوقات الفضيلة ، فقد أخفى الله التاريخ الدقيق لليلة القدر، كما أخفى تعالى سائر الأشياء، فإنه أخفى رضاه في الطاعات، حتى يرغبوا في الكل، وأخفى غضبه في المعاصي ليحترزوا عن الكل، وأخفى الإجابة في الدعاء ليبالغوا فيه، وأخفى وقت الموت ليخاف المكلف، فكذا أخفى هذه الليلة ليعظموا جميع ليالي رمضان، وليجتهد المسلم في طلبها فيكتسب ثواب الاجتهاد. ولم يرد في تعيينها شيء صريح يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم لأن ما ورد في ذلك من الأخبار محتمل لأن يكون أراد به تعيينها في خصوص السنة التي أخبر عنها، وقد أطالت التفاسير وكتب السنة في نقل الآراء والروايات في ذلك، لكن المتعين أن يبحث المسلم عنها من خلال مؤشراتها، وأصح ما يعتمد في ذلك: أنها من ليالي شهر رمضان من كل سنة وأنها من ليالي الوتر كما دل عليه الحديث الصحيح: "تحروا ليلة القدر في الوتر في العشر الأواخر من رمضان".
تفسير سورة القدر - YouTube
والليلة التي تتحدث عنها السورة هي الليلة التي جاء ذكرها في مطلع سورة الدخان: { حم (1)وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} ، وهي ليلة من ليالي رمضان، كما ورد في سورة البقرة: { شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْءَانُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}. وغالباً ما يتبادر إلى ذهن القارئ السؤال التالي عند قراءة هذه السورة: كيف أنزل القرآن في ليلة القدر، مع العلم بأنه أنزل متفرقاً؟ وقدأجيب عن هذا السؤال بعدة وجوه: منها: أنه ابتدأ بإنزال القرآن ليلة القدر لأن البعثة كانت في رمضان، أو أن القرآن أنزل إلى السماء الدنيا جملة ليلة القدر، ثم إلى الأرض متفرقاً. وقد تكون ليلة القدر قد شرفت بنزول القرآن فيها، أو أنه تعالى اختار لابتداء إنزاله وقتاً شريفاً مباركاً، لأن عظم قدر الفعل يقتضي أن يختار لإيقاعه أفضل الأوقات والأمكنة، فاختيار أفضل الأوقات لابتداء إنزاله ينبئ عن علو قدره عند الله تعالى.
البَريَّةِ- الخَلْقِ- البَشَرِ.. تفسير الآية رقم (7): {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7)} {آمَنُواْ} {الصالحات} {أولئك} (7)- أَمَّا الذِينَ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ، وَاهْتَدَوا بِهُدَاهُ، وَصَدَّقُوا رُسُلَهُ، وَعَمِلُوا الأَعْمَالَ الصَّالِحَةِ، فَبَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَفِي جِهَادِ أَعْدَائِهِ، وَبَذَلُوا أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الخَيْرِ والبِرِّ، وَأَحْسَنُوا مُعَامَلَةَ خَلْقِ اللهِ.
3 – سر المفاضلة بين الأزمنة وفي ثواب الطاعات: إن الأفعال تختلف آثارها في الثواب والعقاب لاختلاف وجوهها، فتارة يجعل ثمن الطاعة ضعفين، ومرة عشراً.. ، وتارة بحسب الأزمنة، وتارة بحسب الأمكنة، فتارة يرجح البيت وزمزم على سائر البلاد، وتارة يفضل رمضان على سائر الشهور، وتارة يفضل الجمعة على سائر الأيام، وتارة يفضل ليلة القدر على سائر الليالي، والمقصود الأصلي من الكل حث المسلم عل الطاعة وصرفه عن الاشتغال بالدنيا.
فحقّ على المسلمين أن يتخذوا هذه الليلة عيدا لهم، إذ فيها بدأ نزول ذلك الدستور السماوي، الذي وجه المسلمين تلك الوجهة الصالحة النافعة، ويجددوا العهد أمام ربهم بحياطته بأنفسهم وأموالهم، شكرا له على نعمه، ورجاء مثوبته. ثم ذكر سبحانه بعض مزايا هذه الليلة المباركة فقال: (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) أي تنزلت الملائكة من عالمها الروحاني حتى تمثلت لبصره ﷺ، وتمثل له الروح (جبريل) مبلّغا للوحى، وهذا التجلي على النفس الكاملة كان بإذن ربهم بعد أن هيأه لقبوله ليبلغ عباده ما فيه الخير والبركة لهم. ونزول الملائكة إلى الأرض شأن من شئونه تعالى، لا نبحث عن كيفيته، فنحن نؤمن به دون أن نحاول معرفة تفاصيله وأسراره، فما عرف العالم بعد علمه المادي بشتى وسائله إلا النذر اليسير من الأكوان كما قال تعالى: « وَما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ». والخلاصة - إن هذه الليلة عيد للمسلمين لنزول القرآن فيها، وليلة شكر على الإحسان والإنعام بذلك، تشاركهم فيها الملائكة بما يشعر بعظمتها، ويشعر بفضل الإنسان وقد استخلفه الله في الأرض. (سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) أي هذه الليلة التي حفّها الخير بنزول القرآن، وشهود ملائكة الرحمن، ليلة كلها سلامة وأمن، وكلها خير وبركة، من مبدئها إلى نهايتها ففيها فرّج الله الكرب عن نبيه، وفتح له سبل الهداية والإرشاد.