و(إلا الله) إيمان بالله.
* * * وقد ذكرنا اختلاف المختلفين من أهل التأويل، والصواب من القول عندنا في ذلك بالأدلّة الدالة على صحته ، في " سورة آل عمران " ، بما أغنى عن إعادته في هذا الموضع. (49) * * * ، ( ومن يدبر الأمر) ، وقل لهم: من يُدبر أمر السماء والأرض وما فيهن ، وأمركم وأمرَ الخلق (50) ؟ ، ( فسيقولون الله) ، يقول جل ثناؤه: فسوف يجيبونك بأن يقولوا: الذي يفعل ذلك كله الله ، ( فقل أفلا تتقون) ، يقول: أفلا تخافون عقاب الله على شرككم وادعائكم ربًّا غيرَ من هذه الصفة صفتُه، وعبادتكم معه من لا يرزقكم شيئًا ، ولا يملك لكم ضرًا ولا نفعا، ولا يفعل فعلا؟ ------------------------ الهوامش: (49) انظر ما سلف 6: 304 - 312. (50) انظر تفسير " تدبير الأمر " فيما سلف ص: 18 ، 19.
واعترافهم بأنّ الرازق والمالك والمخرج والمدبر هو الله أي: لا يمكنهم إنكاره ولا المنافسة فيه. ومعنى أفلا تتقون: أفلا تخافون عقوبة الله في افترائكم وجعلكم الأصنام آلهة؟ وقيل: أفلا تتعظون فتنتهون عن ما حذرت عنه تلك الموعظة.
ثم قال: ( فأنى تصرفون) والمعنى أنكم لما عرفتم هذا الأمر الواضح الظاهر ( فأنى تصرفون) وكيف تستجيزون العدول عن هذا الحق الظاهر. واعلم أن الجبائي قد استدل بهذه الآية وقال: هذا يدل على بطلان قول المجبرة أنه تعالى يصرف الكفار عن الإيمان; لأنه لو كان كذلك لما جاز أن يقول: ( فأنى تصرفون) كما لا يقول إذا أعمى بصر أحدهم إني عميت ، واعلم أن الجواب عنه سيأتي عن قريب. أما قوله: ( كذلك حقت كلمة ربك على الذين فسقوا أنهم لا يؤمنون) ففيه مسائل: المسألة الأولى: احتج أصحابنا بهذه الآية على أن الكفر بقضاء الله تعالى وإرادته ، وتقريره أنه تعالى أخبر عنهم خبرا جزما قطعا أنهم لا يؤمنون ، فلو آمنوا لكان إما أن يبقى ذلك الخبر صدقا أو لا يبقى ، والأول باطل ؛ لأن الخبر بأنه لا يؤمن يمتنع أن يبقى صدقا حال ما يوجد الإيمان منه. قل من يرزقكم من السماء والأرض أمن يملك السمع والأبصار ومن يخرج . [ يونس: 31]. والثاني أيضا باطل; لأن انقلاب خبر الله تعالى كذبا محال ؛ فثبت أن صدور الإيمان منهم محال ، والمحال لا يكون مرادا ، فثبت أنه تعالى ما أراد الإيمان من هذا الكافر ، وأنه أراد الكفر منه ، ثم نقول: إن كان قوله: ( فأنى تصرفون) يدل على صحة مذهب القدرية فهذه الآية الموضوعة بجنبه تدل على فساده ، وقد كان من الواجب على الجبائي مع قوة خاطره حين استدل بتلك الآية على صحة قوله أن يذكر هذه الحجة ويجيب عنها حتى يحصل مقصوده.
وقوله: ( ومن يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي) أي: بقدرته العظيمة ، ومنته العميمة ، وقد تقدم ذكر الخلاف في ذلك ، وأن الآية عامة في ذلك كله. وقوله: ( ومن يدبر الأمر) أي: من بيده ملكوت كل شيء وهو يجير ولا يجار عليه ، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، ( يسأله من في السماوات والأرض كل يوم هو في شأن) [ الرحمن: 29] ، فالملك كله العلوي والسفلي ، وما فيهما من ملائكة وإنس وجان ، فقيرون إليه ، عبيد له ، خاضعون لديه ، ( فسيقولون الله) أي: هم يعلمون ذلك ويعترفون به ، ( فقل أفلا تتقون) أي: أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم ؟.
قال السمرقندي: قوله تعالى: {قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مّنَ السماء} يعني: قل يا محمد للمشركين: من يرزقكم من السماء بالمطر. {والأرض} ومن الأرض بالنبات. {أَمَّن يَمْلِكُ السمع والابصار} ، أي من يخلق لكم السمع والأبصار، {وَمَن يُخْرِجُ الحى مِنَ الميت} ؛ ومن يقدر أن يخرج الحي من الميت، يعني: الفرخ من البيضة. {وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحى} ، يعني: البيضة من الطير، والنطفة من الإنسان، والمؤمن من الكافر، والكافر من المؤمن. {وَمَن يُدَبّرُ الأمر} ، يعني: من يقدر أن يدبر الأمر بين الخلق، وينظر في تدبير الخلائق، ويقال: من يرسل الملائكة بالأمر. {فَسَيَقُولُونَ الله} يفعل ذلك كله لا الأصنام، لأن الأصنام لم يكن لهم قدرة على هذه الأشياء. {فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ} الشرك فتوحدونه، إذ تعلمون أن لا يقدر أحد أن يفعل هذه الأشياء إلا الله تبارك وتعالى، ويقال: أفلا تتقون أي تطيعون الله الذي يملك ذلك؟. قال القرطبي: {قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ} المراد بمساق هذا الكلام الردُّ على المشركين وتقرير الحجة عليهم؛ فمن اعترف منهم فالحجة ظاهرة عليهم، ومن لم يعترف فيقرّر عليه أن هذه السموات والأرض لابد لهما من خالق؛ ولا يتمارى في هذا عاقل.