وروي عن يوسف عليه السلام أنه كان لا يشبع من طعام فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: (إنْ أخاف إنْ شبعتُ أنْ أنسى الجائع)(7). وكان النبي صلى الله عليه وسلم جواداً بطبعه في كل السنة ولكن كان في رمضان أجود بالخير من الريح المرسلة. وتعلمت عائشة والصحابة رضوان الله عليهم منه فكانوا كذلك جوادين، فقد أنفقت عائشة في يوم من أيام الصيام مائة ألف درهم، فقالت لها خادمتها: لو أبقيت لنا ما نفطر عليه اليوم! حكم ومقاصد الصيام. فقالت: "لو ذكرتيني لفعلت". وفوق ذلك كله أوجب الشرع صدقة الفطر على كل مسلم قادر عليها تكثيراً للصدقات في شهر المواساة. 2 – قيام الليل: فإن كان قيام الليل من أعظم النوافل وأكثرها جلباً لمحبة الله! فإن قيام الليل في رمضان مرغّب فيه بخصوصه، فوردت فيه النصوص واجتمع له الصحابة والتابعون ومن تبعهم بإحسان، ولا يزال الناس يجتمعون لقيام ليالي رمضان، وفي ذلك من مظاهر الطاعة لله ما فيه والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: "من قام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه"(8). 3 – إفطار الصائم: من أعظم الطاعات إفطار الصائم وما جعله الله من أجر ومثوبة، وفي الحديث: "إن الصائم تصلي عليه الملائكة إذا أُكل عنده حتى يفرغوا"(9).
أقول: ويؤيده أيضاً أن صيام الشهر كله لو وقع فهو مما يُعرف وينتشر ، فينقله بقية الصحابة ، ولم يذكر صيامه كله إلا عائشة رضي الله عنها ، وكلامها موجه بما ذكره ابن المبارك رحمه الله. والمداومة على صيام أكثره سنة ؛ لرواية الصحابة له من أوجه متعددة. ولا يعارض مشروعية هذه المداومة ما جاء في حديث: ( إذا انتصف شعبان فلا تصوموا حتى يكون رمضان) فقد رواه أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة ، وصححه جمع من المحدثين ، وضعفه جمع آخر ، وأصح الاتجاهين في ذلك هو القول بضعفه ؛ لأن في سنده العلاء بن عبدالرحمن ، وهو وإن كان صدوقاً إلا إن له أوهاماً هذه إحداها ، وقد اعتبر من أوهامه ؛ لمعارضة حديثه هذا أحاديث أخرى ، منها حديث: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين) الحديث ، وغيرها مما دل على مشروعية الصيام بعد النصف من شعبان. في العشر الأواخر من رمضان هل نفصل صلاة التراويح فنصلي بعضها بعد العشاء ونكملها آخر الليل. ولا يمكن الجمع بين الأحاديث التي قالت بمشروعية الصيام بأن يُحمل هذا الحديث على الكراهة ؛ فالعبادة لا تكون إلا واجبة أو مستحبة ؛ فلا تكون مكروهة ولا محرمة ؛ فعليه لا يمكن أن تُشرع عبادة الصوم بعد النصف من شعبان وهي في ذات الوقت مكروهة فضلاً عن أن تكون محرمة ، وحيث لم يظهر وجه صحيح للجمع بين هذه الأحاديث فإن الأرجح أن يكون هذا أحد أوهامه رحمه الله.
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: "الصيام يضيق مجاري الدم التي هي مجاري الشيطان من ابن آدم؛ فإن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم؛ فتسكن بالصيام وساوس الشيطان، وتنكسر سورة الشهوة والغضب؛ ولهذا جعل النبي صلى الله عليه وسلم الصوم وجاء لقطعه عن شهوة النكاح" [10]. فالصوم يسكن النفس الأمارة بالسوء، ويهذبها؛ فالإنسان عندما يكون صائمًا يكون في بُعْدٍ من تأثير الشيطان عليه؛ بسبب أن الصوم يضيِّق على الشيطان مجاري الدم فيه فيضعف تأثيره عليه، ويكون الصيام وقاية للعبد من النار؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ((الصيام جنة)) [11]. ثالثًا: تذكُّر المساكين والمحتاجين: من مقاصد وحكم هذه العبادة الجليلة أن العبد يحس بالجوع والتعب؛ ليتذكر حال إخوانه الفقراء والمحتاجين الذين يقاسون ويعانون مرارة الجوع والحرمان: لاَ يَعْرِفُ الشَّوْقَ إِلا مَنْ يُكَابِدُهُ وَلاَ الصَّبَابَةَ إِلا مَنْ يُعَانِيهَا [12] قال العلامة ابن الهمام رحمه الله: "كَوْنُهُ مُوجِبًا لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ؛ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ذَكَرَ مَنْ هَذَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ؛ فَتُسَارِعُ إلَيْهِ الرِّقَّةُ عَلَيْهِ" [13].
ثانياً: سدّ مسالك الشيطان لكسر الشهوات: لأنّ الجوع والعطش يكسران شهوة المعاصي، إذ المعاصي والكبائر أخطرها وأفسدها على الفرد والمجتمع: ما كان متعلقاً بشهوات البطن والفرج، فسدّ الله تعالى بالصيام مسالكهما على الشيطان. فالغريزة الجنسية من أخطر أسلحة الشيطان في إغواء الإنسان، لذلك جاءت الوصية النبوية لأكثر فئات الناس تعرّضاً للإغواء بسببها "الشباب" صريحة فقال عليه الصلاة والسلام: "يا معشر الشباب! من استطاع منكم الباءة فليتزوج، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وِجاء"(3)، فتأثير الصوم على كسر شهوة الفرج كمن رضَّ أُنثييه فلم يعدْ يشتهي أو يرغب، وقد جاء في الحديث: "إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم، (فضيقوا مسالكه بالجوع)"(4). ويفسّر ابن العربي قوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فيقول: (لعلكم تضعفون فتتقون، فإنه كلما قلّ الأكل ضعفت الشهوة، وكلما ضعفت الشهوة قلّت المعاصي) ا. هـ(5). ثالثاً: توفير الطاعات ومضاعفة المثوبات للدخول من باب الريّان: ومن الطاعات التي يوفرها الصيام: 1 – تكثير الصدقات: لأن الصائم إذا جاع تذكّر ما فيه من الجوع فحثّه ذلك على إطعام الجائع، وقد حُكي عن نبي الله سليمان عليه السلام أنه كان لا يأكل حتى يأكل جميع المتعلقين به، فسئل عن ذلك فقال: (أخاف أن أشبع فأنسى الجائع)(6).
5- حصولُ الثَّوابِ والأجْرِ العظيمِ بِدَفعِها لِمُستحقِّيها في وَقتِها المحدَّدِ؛ لِمَا جاء في حديثِ ابن عبَّاس: ((فمَن أدَّاها قبل الصَّلاةِ؛ فهي زكاةٌ مقبولةٌ، ومَن أدَّاها بعد الصَّلاةِ؛ فهي صدقةٌ مِنَ الصَّدَقاتِ)). 6- أنَّ بها تمامَ السُّرورِ للمُسلمين يومَ العِيدِ، وتَرفَعُ خَلَل الصَّومِ. حُكم زكاة الفِطر: زكاةُ الفِطرِ واجبةٌ، وهذا باتِّفاقِ المَذاهِبِ الفِقهيَّة الأربَعةِ: الحنفيَّة ، والمالكيَّة على المشهور ، والشافعيَّة ،والحَنابِلَة ، وبه قال عامَّةُ أهلِ العِلمِ ، وحُكِيَ فيه الإجماعُ. الدليل من السُّنَّة: عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ الله تعالى عنهما قال: ((فرَض رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم زكاةَ الفِطر صاعًا من تَمرٍ، أو صاعًا من شَعيرٍ، على العبدِ والحُرِّ، والذَّكرِ والأنثى، والصَّغير والكبيرِ مِنَ المسلمينَ، وأمر بها أن تُؤدَّى قبل خُروجِ النَّاسِ إلى الصَّلاةِ)). وفي لفظٍ آخَرَ: ((فرَض رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم صدقةَ الفِطرِ صاعًا من شَعيرٍ، أو صاعًا مِن تَمرٍ، على الصَّغيرِ والكبيرِ، والحرِّ والمَملوكِ)). مقدار زكاة الفطر: حدد مجمع الفقه الإسلامي زكاة الفطر( 1400)جنيهاً فقط الف وأربعمائة جنيها.