تفسير سورة هل أتى على الإنسان وهي مكية بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ هَلْ أَتَى عَلَى الإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا ( 1) إِنَّا خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ( 2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ( 3). ذكر الله في هذه السورة الكريمة أول حالة الإنسان ومبتدأها ومتوسطها ومنتهاها. فذكر أنه مر عليه دهر طويل وهو الذي قبل وجوده، وهو معدوم بل ليس مذكورا. ثم لما أراد الله تعالى خلقه، خلق [ أباه] آدم من طين، ثم جعل نسله متسلسلا ( مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ) أي: ماء مهين مستقذر ( نَبْتَلِيهِ) بذلك لنعلم هل يرى حاله الأولى ويتفطن لها أم ينساها وتغره نفسه؟ فأنشأه الله، وخلق له القوى الباطنة والظاهرة، كالسمع والبصر، وسائر الأعضاء، فأتمها له وجعلها سالمة يتمكن بها من تحصيل مقاصده. ثم أرسل إليه الرسل، وأنزل عليه الكتب، وهداه الطريق الموصلة إلى الله ، ورغبه فيها، وأخبره بما له عند الوصول إلى الله. 080- الآيتان (129 - 130) (سورة النساء- تفسير السعدي). الشيخ/ إيهاب الشريف - موقع أنا السلفي. ثم أخبره بالطريق الموصلة إلى الهلاك، ورهبه منها، وأخبره بما له إذا سلكها، وابتلاه بذلك، فانقسم الناس إلى شاكر لنعمة الله عليه، قائم بما حمله الله من حقوقه، وإلى كفور لنعمة الله عليه، أنعم الله عليه بالنعم الدينية والدنيوية، فردها، وكفر بربه، وسلك الطريق الموصلة إلى الهلاك.
{وَلَا يَجِدُونَ لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا} أي: لا يجدون أحدا من الخلق يتولاهم فيحصل لهم المطلوب، ولا مَن ينصرهم فيدفع عنهم المرهوب، بل قد تخلى عنهم أرحم الراحمين، وتركهم في عذابهم خالدين، وما حكم به تعالى فلا رادّ لحكمه ولا مغيّر لقضائه.
كما قال تعالى: فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الأَعْيُنُ. عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ أي: ذلك الكأس اللذيذ الذي يشربون به، لا يخافون نفاده، بل له مادة لا تنقطع، وهي عين دائمة الفيضان والجريان، يفجرها عباد الله تفجيرا، أنى شاءوا، وكيف أرادوا، فإن شاءوا صرفوها إلى البساتين الزاهرات، أو إلى الرياض الناضرات، أو بين جوانب القصور والمساكن المزخرفات، أو إلى أي: جهة يرونها من الجهات المونقات. وقد ذكر جملة من أعمالهم في أول هذه السورة، فقال: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ أي: بما ألزموا به أنفسهم لله من النذور والمعاهدات، وإذا كانوا يوفون بالنذر، وهو لم يجب عليهم، إلا بإيجابهم على أنفسهم، كان فعلهم وقيامهم بالفروض الأصلية، من باب أولى وأحرى، وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا أي: منتشرا فاشيا، فخافوا أن ينالهم شره، فتركوا كل سبب موجب لذلك، وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ أي: وهم في حال يحبون فيها المال والطعام، لكنهم قدموا محبة الله على محبة نفوسهم، ويتحرون في إطعامهم أولى الناس وأحوجهم مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا.
وقوله تعالى لما ذكر نعيم الجنة إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلا فيه الوعد والوعيد وبيان كل ما يحتاجه العباد، وفيه الأمر بالقيام بأوامره وشرائعه أتم القيام، والسعي في تنفيذها، والصبر على ذلك. ولهذا قال: فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا أي: اصبر لحكمه القدري، فلا تسخطه، ولحكمه الديني، فامض عليه، ولا يعوقك عنه عائق. وَلا تُطِعْ من المعاندين، الذين يريدون أن يصدوك آثِمًا أي: فاعلا إثما ومعصية ولا كَفُورًا فإن طاعة الكفار والفجار والفساق، لا بد أن تكون في المعاصي، فلا يأمرون إلا بما تهواه أنفسهم. ولما كان الصبر يساعده القيام بعبادة الله ، والإكثار من ذكره، أمره الله بذلك، فقال: وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلا أي: أول النهار وآخره، فدخل في ذلك، الصلوات المكتوبات وما يتبعها من النوافل، والذكر، والتسبيح، والتهليل، والتكبير في هذه الأوقات. وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ أي: أكثر [ له] من السجود، ولا يكون ذلك إلا بالإكثار من الصلاة. وَسَبِّحْهُ لَيْلا طَوِيلا وقد تقدم تقييد هذا المطلق بقوله: يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلا قَلِيلا الآية [ وقوله] إِنَّ هَؤُلاءِ أي: المكذبين لك أيها الرسول بعد ما بينت لهم الآيات، ورغبوا ورهبوا، ومع ذلك، لم يفد فيهم ذلك شيئا، بل لا يزالون يؤثرون، الْعَاجِلَةَ ويطمئنون إليها، وَيَذَرُونَ أي: يتركون العمل ويهملون وَرَاءَهُمْ أي: أمامهم يَوْمًا ثَقِيلا وهو يوم القيامة، الذي مقداره خمسون ألف سنة مما تعدون، وقال تعالى: يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ فكأنهم ما خلقوا إلا للدنيا والإقامة فيها.