بمثل هذا الرسوخ تؤمّن الأسرة من التصدّع، وإذا نشأ خلاف فإن المحبة الصادقة والمودة ستذيبه. إن الحكيم الخبير علم أن النفس قد تثور فيها أحياناً وفي أجواء الخلاف مشاعر الكراهية، فيجد الشيطان ضالته المنشودة لهدم كيان الأسرة، فكان التوجيه القرآني لتنقية المشاعر وليعود للحياة صفاؤها، وللأسرة بهاؤها، قال تعالى: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً) [النساء:19]، ولذلك قال الإمام ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: "أي فعسى أن يكون صبركم في إمساكهن مع الكراهية فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة". قد يجني الجاهل على نفسه، ويدمّر حياته بطوعه واختياره، حين يستبدل المحبة والمودة والرحمة بالعناد والتحدي، وهذا نذير شؤم، وبداية تصدع، ولا يدمر الأسرة شيء كما يدمرها العناد والتحدي. الاسرة في الإسلامي. فالخلافات الصغيرة تصبح بالعناد كبيرة، والخلافات الكبيرة تغدو باللين والصبر صغيرة. كم نسمع ونشاهد تصدّع أسر وهي في مهدها، ولما يكتمل نباؤها، نتيجة لهذه الاعتبارات. وقد قرر كثير من الباحثين أن التفكك الأسري سببٌ رئيس في انحراف الأهداف والسلوك من طريق الجنوح، ولهذا فإن الأسرة مطالبة بحماية نفسها قبل حدوث الشقاق، ولا يخفى أن الحياة لا تصفو دائماً، بل هي معرضة للسراء والضراء.
ذلك أنه كلام من خلق البشر وجعلهم ذكوراً وإناثاً وشعوباً وقبائل مختلفة الأجناس والألوان والألسنة؛ فجاء القرآن ليعالجهم من كل انحراف، وينقذهم من كل إسفاف، فناداهم بنداء واحد يراعي الخصوصية، وينمي فيهم ارتباطهم بخالقهم، الذي ذرأهم رغم ذلك التفاوت من أصل واحد؛ قال تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً... } [ النساء:1]. الإسلام واستقرار الأسرة - طريق الإسلام. وبهذا نبههم الله تعالى أن أصل خلقهم واحد، وأنهم مخلوقون جميعاً من أرومة واحدة، وأن مرجعهم إلى وحدة اجتماعية واحدة، وأن مردهم جميعاً إلى خالق واحد، أبدعهم ابتداء نفساً واحدة وجعل منها زوجها ليتكون أساس الأسرة التي يقوم عليها نظام المجتمع البشري الذي تطبق فطرته على توحيد إله واحد؛ هو الخالق الرازق المبدئ المعيد. إن تلك اللبنة الأولى للمجتمع تكتنف طفلاً يترعرع في أحضانها وتنمو مداركه في جوها وتتبلور أحاسيسه في حناياها وتتأسس قيمه في أرجائها وتترسخ مبادئه بين حجرها، فلا بد أن تكون واعية بمسؤوليتها تجاهه. لقد حبي الطفل في الأسرة المسلمة بعناية منعدمة النظير؛ وذلك بما جعل الله له من حقوق أناطها بأسرته الكريمة التي أنزلها المنزلة الرفيعة وبوأها المكانة العالية وأحاطها بالرعاية الكاملة؛ لتكون عراها وثيقة وبنيانها راسياً وحصنها منيعاً، حتى تتمكن من أداء مسؤوليتها عن طفلها بكفاءة.
وإذا تحققت هذه الأهداف تحققت الثمار المرجوّة من الزواج. فمن ثماره الراحة النفسية التي تدخل قلب كل من الزوجين، والنسل الذي هو مقصد عظيم من مقاصد الزواج وما يترتب عليه من حقوق وواجبات كالنفقة والرضاع وحسن الرعاية. ومن ثماره أيضاً الاستقامة في سلوك الفرد، ومن ثم يصبح المجتمع مجتمعاً أخلاقياً يصون الفضيلة ويبغض الرذيلة. الأسرة في الإسلام. كما أن أعظم مقاصده توسيع شبكة العلاقات الاجتماعية، ومن ثم حرّم الإسلام نكاح المحارم (الأم - الأخت - البنت.. ومن في حكمهن)، وكان الأولى أن يتزوج الفرد من غير قرابته لتتسع دائرة القرابة وتشتد لُحمة المجتمع، فتكون رابطة المصاهرة رافداً جديداً لتماسك المجتمع، وقوته بالإضافة إلى رابطة "الأخوة" الدينية. ومن ثماره حصول التوارث بين الزوجين وأبناء الأسرة بسبب تلك الرابطة، ولم يقف الأمر عند هذا الحد في الإسلام بل تعداه إلى تشريع ضمانات لاستمرارية الزواج واستقامته، ولم يُشرع الطلاق إلا عند الضرورة حيث لا ينفع العلاج وتنقطع السُبل. ومن أهم تلك الضمانات "صلة الأرحام" التي تؤثر في تربية الطفل تربية سوية تحقق له الاتزان النفسي والدافع الاجتماعي. كما أنها تكون ملاذاً للزوجين لحل مشاكلهما فتكون القرابة سبيلاً من سُبل حماية الأسرة وحكماً عادلاً في حل الخلافات.