الخطبة الأولى: أما بعد فيا أيها الناس: اتقوا الله الذي خلقكم من عدم، ودفع عنكم سائر البلاء والنقم، وأردف عليكم من واسع النعم، جل في علاه من إله حليم كريم. عباد الله: كل الناس يغدو ويروح ليتاجر في هذه الدنيا، والكل يبحث عن الربح العالي، الكل يبحث عن الغنى الفاحش، الكل يلهث وراء الدنيا، إلا من رحم الله وقليل ما هم، ولكن عندما نبحث عن المتاجرين مع الله، الباحثين عن الربح الوفير مع الله، نجدهم قليلاً، بل أقل من القليل، مع أن الفرق بين التجارتين كما بين السماء والأرض يقول المولى جل في علاه ( إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ) [فاطر: 29] لن تبور بمعنى لن تخسر أبدًا، وكيف تخسر وأنت تتاجر مع الله، الذي خزائنه لا تنفد، وعطاؤه لا حصر له. حديث عن التجارة مع الله. ألم تروا لهذه الأمطار التي أنزلها الله علينا، كم فيها من النعم والخيرات! يصب الخير علينا صبًّا، إن التجارة مع الله لا تحتاج لدراسة جدوى، ولا رأس مال، فقط قم بما تستطيع من العمل، وقدم لآخرتك، فالله لا يكلف نفسًا إلا وسعها، وكل الأعمال التي كلفنا بها نستطيع عملها بلا منّة ولا كلفة، فالفقير يتاجر مع الله، والغني يتاجر مع الله، والمريض يتاجر مع الله، الكل بلا استثناء يتاجر مع الله، فقط استحضر النية، وتاجر مع الله، وسأضرب لكم أمثلة على الربح مع الله.
وما أربحَ هذا البيعَ الذي نشتري فيه الباقي بالفاني! وهو على هذا جزاء للمجاهد، سواء قُتِل في سبيل الله، أو مات على فِراشه، فما أعظم منه؟!
فعلينا أن نقدم أنفسنا وأموالنا إذا أردنا أن نتحصل على ما نبغي من رضى الله سبحانه وتعالى، ومن جنات تجري من تحتها الأنهار. ومن ذلك أيضاً قول الله سبحانه وتعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ) وقد روي أن هذه الآية نزلت في صهيب الرومي حين أقبل مهاجراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فلحقه نفر من قريش، فنزل عن راحلته، وأخرج ما في كنانته، وأخذ قوسه وقال: 'وأيم الله، لا تصلون إليَّ حتى أرمي ما في كنانتي ثم أضرب بسيفي ما بقي منه شيء، ثم افعلوا بعد ذلك ما شئتم'. فقالوا له: لا نتركك تذهب عنا غنياً وقد جئتنا صعلوكاً لا مال لك، ولكن دلنا على مالك لنخلي سبيلك، وعاهدوه على ذلك ففعل، فلما وصل المدينة نزل قول الله سبحانه: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَؤوفٌ بِالْعِبَادِ) فاستقبله الحبيب صلى الله عليه وسلم قائلاً: "ربح البيع أبا يحيى، ربح البيع أبا يحيى".