لكنه ليس من أولئك الذين يتذمرون، بل يحوّل غضبه الى مبادرة لتثقيف سياسي للاسرى الشبان، ضحايا الاحتلال وضحايا بؤس الحال الفلسطيني. يقف في الزنزانة بمحاذاة البوابة ذات الشبك والتي تفتح مباشرة الى ساحة السجن، لكنه يطل باذنيه وحواسه، يعرف من يسير في الساحة إما من وتيرة المشية وصوتها واما من الكلام أو أي صوت يخرج عمن يريد فيناديه باسمه بصوت جهوري. الأذن تعشق قبل العين أحيانا.. جماليات الفن التشكيلى والذوق العام فى "ألوان مسموعة" - الأهرام اليومي. وعند الحاجة يعرف من التوقيت فالعديد من الأسرى يخرجون إلى الساحة في أوقات محددة ضمن نظام وضعه كل منهم لنفسه. لمن لا يعرفه كان كلامه واسئلته يخلقون الانطباع الأولي بالفضولية، لكنه أبعد ما يكون عن ذلك في أسئلته التفصيلية، بل أن هذا الاسلوب يجعله قادرا على الاستعانة بعيون الاخرين الذين يَكرَمون ببصرهم وهو يجود ببصيرته، وذلك عوضا عن نظره الذي فقده في العام 1979 في انفجار عبوة كان يعدّها لعملية فدائية. ورغم التعذيب الرهيب الذي تعرض له بعدها واستغلال جهاز التحقيق لوضعه الصحي وفقدان بصره إلا أنه اجتاز أصعب الامتحانات وصمد وأصرّ على الانتصار. جرى الإفراج عنه رغم الحكم مدى الحياة وذلك في صفقة وفاء الأحرار بين حماس وإسرائيل تشرين العام 2011. وبعد أقل من ثلاث سنوات وفي صباح احد ايام صيف 2014 فتحت البوابة الخارجية للقسم حيث مقصورة السجانين ودخل علاء البازيان ومجموعة من قدامى الاسرى الذين شملتهم الصفقة المذكورة، وقد أعادهم الاحتلال بتهمة الاخلال باتفاقية الافراج.
كانت التهم الموجهة الى ابي كمال خطيرة للغاية فمثلا، "المشاركة في احتفال يوم المرأة العالمي"، وفي "احتفالات عيد الأم" في شهر آذار، كما أنه شارك في احتفال لحركة فتح. إنها تُهَم خطيرة في نظر المستعمر وجهازه القضائي المطواع الذي يقوم بتسويغ جريمة الاحتفاء بعيد الام، ليعود ابو كمال الى السجن وليواصل الحكم المؤبد الى حين الفرج القادم، وتلقي دولة الاحتلال عرض الحائط بالتزاماتها التي أخذتها على عاتقها ضمن صفقة التبادل، وهذا ليس بسلوك جديد، بل انها تسعى دائما الى تضمين تفاصيل صفقات تبادل الاسرى بشروط تبدو هامشية لحظة التنفيذ لكنها مخارج لها متى شاءت التنصل مما وقّعت عليه، وهي لا تنصاع للنص الا عند اضطرارها الى ذلك. والأذن تعشق قبل العين أحيانا. يختلف وضع علاء البازيان في هذه المرة عما سبق من سبع وعشرين عاما قضاها في السجون، فقد تزوج وشريكة حياته وولدت لهما ابنتان. احضرت له العائلة شريط الفيديو لحفل زفافه، وكم اراد ان نشاهده معه وكذا الامر مع كل زميل أسر يأتي لزيارته في الزنزانة الأكثر ضيقا من "بيت الضيق" لكنها "تتسع للألف صديق". كان مولعا بتلك اللحظة الفارقة الطافحة بالسعادة والغبطة. كلنا شاهدنا احتفاله، الا هو العريس, فكيف للمكفوف ان يرى.
اهم ما ينتظره الاسرى القدامى من انباء تأتي بها الصحف او نشرات الاخيار وبالذات من جهاز المذياع كانت اي ذكر لمفاوضات بشأن تقدم ما نحو صفقة تبادل اسرى مع حماس او مفاوضات مع السلطة الفلسطية وم ت ف لاحتمالية ان تؤدي الى دفعة من الافراجات. كانت الاوهام بالمجمل تسبق التحليلات او دلالات الخبر، وكما درج يقول الاسير صالح ابو مخ الذي يشارف على على عامه الاربعين في سجون الاحتلال بقوله: "إن عيش شهر مع وهم بالفرج افضل من الشعور باليأس شهرا كاملا"، وهذه برأيي حكمة من قلب القهر والوعود المؤجلة، ولا يشعر بها احد مثل الاسير او الاسيرة. كان منحى علاء ان لا يقبل تلقي الاخبار وينام مرتاح البال، بل كان ينام مرتاح البال رغم انكفاء الامل الصادر عن بؤس الحالة الفلسطينية والعربية، كما اعتبر ان الراحة النفسية للاسير هي حالة صمود لقهر القهر. كلاهما كان متفائلا، وكلّ بطريقته. لو نظرنا الى مجمل سنوات اعتقاله لحد الان فهو في عامه السابع والثلاثين.. وفي مثل تجربة المثقف السياسي والمناضل فهو ادرى في صنع نافذة الى الحرية يطلّ من خلال بصيرته على الوطن المحرر والشعب الحر الذي ناضل ويناضل من اجله ودفع عينيه وآثار جروحه التي تملأ جسده النحيل، واكثر من نصف عمره في الطريق الطويل الى الحرية كما وصفه نلسون مانديلا.