كلف الله تعالى إبراهيم عليه السلام بأمور فأتمهن و قام بهن، فخاطبه ربه:( إني جاعلك للناس إماما) يقتدى به و يرجع الناس إليه، فراح إبراهيم من موقع الأبوة يدعو و يسأل:( و من ذريتي؟) فكان الجواب الحاسم: ( لا ينال عهدي الظالمين). كلمات إبراهيم. فالخيرية إيمان يتبعه جهد وبذل، و عمل و استقامة، و ليست تركة تورّث أو تورَث بتلقائية و عفوية كحق خُصّ به عرق، أو ميّز الله به سلالة أو فئة تناله اتكالا على النسب، كيفما كان حال هذا المرء صلاحا أو فسادا( لا ينال عهدي الظالمين). إنما ينال العهد و يدرك المنزلة نفسية سمت، و استقامت بمؤهلات الإيمان و العمل، دون أدنى تأثير لحسب أو نسب، و إلا لما أنزل الله قرآنا يتلى أبد الدهر ( تبت يدا أبي لهب و تب) و لكفاه النسب و الحسب عن هذا التوبيخ المعلن، و تفنيد الموقف الضال، مؤكدا سبحانه:( أنه سيصلى نارا ذات لهب) فأين ذهب الحسب و النسب! ؟ نسف في ميزان الله نسفا ( لا أنساب بينهم يومئذ و لا يتساءلون). لقد كان حال المصطفى صلى الله عليه و سلم مع ذوي قرابته( لا يأتيني الناس بأعمالهم و تأتوني بأنسابكم) و لذا فقد خاطب ابنته فاطمة الزهراء رضي الله عنها( إعملي فإني لا أغني عنك من الله شيئا).
تقريب آخر للاستدلال بالآية: وهناك تقريب آخر لمدلول الآية المباركة نقله العلاّمة الطباطبائي في الميزان عن بعض أساتذته، حاصله أنَّ الفروض المتصوَّرة لما يمكن أن تكون عليه ذرية إبراهيم(ع) بل ولمطلق الناس من حيث الاتِّصاف بالظلم وعدمه، هذه الفروض أربعة ولا يمكن أنْ يخرج صنفٌ من الناس عن واحدٍ من هذه الفروض لأنَّ القسمة عقلية حاصرة: الصنف الأوّل: مَن كان ظالماً في أوّل عمره وبقي على ظلمه إلى آخر عمره. الصنف الثاني: مَن كان ظالماً في أوّل عمره ثمَّ انتهى عن الظلم. الموقف الصعب: لا ينال عهدي الظالمين - مع القرآن - أبو الهيثم محمد درويش - طريق الإسلام. الصنف الثالث: مَن كان غير ظالم في أوّل عمره ثمَّ أصبح ظالماً. الصنف الرابع: مَن لم يقارف الظلم في تمام عمره. هذه هي الأصناف الأربعة المتصوَّرة، وليس ثمة من صنفٍ إلا وهو داخل تحت واحدٍ من هذه الأصناف. وحينئذٍ نقول: إنَّ من غير المحتمل أنْ يسأل إبراهيم (ع) عن أهليّة الصنف الأوّل والثالث للإمامة، إذ من الواضح أنَّ الإمامة لا تكون لظالم والمفترض أنَّ الصنف الأوّل ظلَّ متلبِّساً بالظلم من أوّل عمره إلى آخره، والصنف الثالث متلبِّس بالظلم حين جعل الإمامة وإن لم يكن في أوّل عمرهِ ظالماً. ومن هنا يتعين مورد السؤال في الصنف الأوّل والرابع، وقد جاء الجواب أنَّ الصنف الأوّل يُعدُّ من الظالمين فلا يتأهَّل للإمامة بمعنى أنَّ الذي كان ظالماً في أوّل عمره فهو مِن الظالمين وإنْ انتهى عن الظلم في بقيّة عمره، ولأنَّه من الظالمين فهو لا ينال عهد الله عزَّ وجل ولا يتأهَّل للإمامة الإلهيَّة.
قال إبراهيم: "واجنبني وبني أن نعبد الأصنام، ربَّ إنهن أضللن كثيرا من الناس". قال النبي (ص): فانتهت الدعوة إليَّ وإلى أخي عليًّ لم يسجدٌ أحد منا لصنمٍ قط، فاتخذني الله نبَّياً، وعليَّاً وصياً" ( 3). فهذه الرواية ظاهرة جداً في أنَّ قوله: ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ كان دعاءً وطلباً ولم يكن استفهاماً فحينما قال إبراهيم: ﴿ وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ كان الجواب من قِبل الله تعالى? بحسب الرواية- أني "لا أُعطيك عهداً" أي لا أَعِدك بالإستجابة في كلَّ ذريتك، وهذا تعبير عن أن قول إبراهيم ﴿وَمِن ذُرِّيَّتِي﴾ كان دعاءً لأن ذلك هو المناسب للجواب الذي تلقَّاه بالوحي عن الله تعالى. وأما المراد من قوله تعالى: ﴿لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ﴾ ( 4) فهو أنّ الاستخفاف والإمامة لا تُعطى من قِبل الله تعالى للظالمين، والظالم هو من يتجاوز الحق الذي عليه لله تعالى أو للناس ومقتضى ذلك أن الإمامة الإلهية لا تكون إلا للمعصوم من كلَّ ذنب، لأن مَن يرتكب المعصية ظالم لربَّه ومتجاوز للحق الإلهي الذي عليه وهو الطاعة المطلقة لله جلَّ وعلا، وكذلك من يتعدى على حقَّ غيره من الناس وإنْ كان ذلك الحق مُستحقَراً فإنَّه يكون ظالماً. فكلُّ من صدر منه الظلم ولو بأدنى مراتبه فإنَّه لا يكون مؤهلاً للإمامة الإلهية لأنَّ الظالمين لا تنالهم الإمامة بمقتضى الآية الشريفة.
فمن باب أولى لو كان في القرآن الكريم خطأ أن يسارع مشركو قريش فينكروا على النبي صلى الله عليه وسلم هذا الخطأ ويُعَايِرُونَهُ به. فلم نسمع أبدا في تاريخ دعوة النبي صلى الله عليه وسلم أن أحد المشركين قال: هذا محمد يلحن في اللغة العربية! بل على العكس، لقد مدحوا القرآن الكريم بأجمل الألفاظ. فقال أحد أكابرهم وهو الوليد بن المغيرة عن القرآن الكريم: { وَاللهِ، إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلاوَةً، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلاوَةً وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلاهُ، مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلا، وَأَنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ}. دلائل النبوة للبيهقي (2/ 198) ط دار الكتب العلمية – بيروت. فكيف صار الحال الآن بالأعاجم الذين لا يعرفون قبيلا من دبير أن يزعموا وجود خطأ لغوي في القرآن الكريم ؟؟ ثانيا: هل نزل القرآن الكريم قبل تأسيس قواعد اللغة العربية وتقعيد قواعدها أمْ أنَّ ذلك قد حدث بعد نزول القرآن ؟؟ لا خلاف أنَّ قواعد اللغةِ العربية إنما استقاها العلماء وأخذوها من آيات القرآن الكريم الذي نَزَلَ موافقًا للغة العرب. فلو كان هناك خطأ ؛ فسيكون هذا الخطأ في القاعدة التي استنبطها العلماء, ويستحيل أنْ يكون الخطأ في القرآن الكريم بناءً على ما قررناه في أولا.