﴿ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا ﴾؛ أي: تسقط ولدها من هول ذلك اليوم؛ قال الحسن: تذهل المرضعة عن ولدها بغير فطام، وتضع الحامل ما في بطنها لغير تمام، وهذا يدل على أن هذه الزلزلة تكون في الدنيا؛ لأن بعد البعث لا يكون حمل. ومن قال: تكون في القيامة، قال هذا على وجه تعظيم الأمر؛ لا على حقيقته؛ كقولهم: أصابنا أمرٌ يشيب منه الوليد؛ يريد به: شدته. ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ﴾، قرأ حمزة والكسائي: "سكرى وما هم بسكرى" بلا ألف، وهما لغتان في جمع السكران؛ مثل كسلى وكسالى، قال الحسن: معناه: ﴿ وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى ﴾ من الخوف ﴿ وَمَا هُمْ بِسُكَارَى ﴾ من الشراب، وقيل: معناه: وترى الناس كأنهم سكارى، ﴿ وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾.
يوم ترونها تذهل كل مرضعة عما أرضعت وتضع كل ذات حمل حملها وترى الناس سكارى وما هم بسكارى ولكن عذاب الله شديد جملة يوم ترونها تذهل إلخ بيان لجملة إن زلزلة الساعة شيء عظيم لأن ما ذكر في هذه الجملة يبين معنى كونها شيئا عظيما وهو أنه عظيم في الشر والرعب. ويتعلق يوم ترونها بفعل ( تذهل). وتقديمه على عامله للاهتمام بالتوقيت بذلك اليوم وتوقع رؤيته لكل مخاطب من الناس. وأصل نظم الجملة: تذهل كل مرضعة عما أرضعت يوم ترون زلزلة الساعة. فالخطاب لكل من تتأتى منه رؤية تلك الزلزلة بالإمكان. وضمير النصب في ( ترونها) يجوز أن يعود على ( زلزلة) وأطلقت الرؤية على إدراكها الواضح الذي هو كرؤية المرئيات لأن الزلزلة تسمع ولا ترى. ويجوز أن يعود إلى الساعة. ورؤيتها: رؤية ما يحدث فيها من المرئيات من حضور الناس للحشر وما يتبعه ومشاهدة أهوال العذاب. وتري الناس سكاري وما هم بسكارى. وقرينة ذلك قوله تذهل كل مرضعة إلخ. [ ص: 189] والذهول: نسيان ما من شأنه أن لا ينسى لوجود مقتضى تذكره; إما لأنه حاضر أو لأن علمه جديد وإنما ينسى لشاغل عظيم عنه. فذكر لفظ الذهول هنا دون النسيان لأنه أدل على شدة التشاغل. قاله شيخنا الجد الوزير قال: وشفقة الأم على الابن أشد من شفقة الأب فشفقتها على الرضيع أشد من شفقتها على غيره.
وكل ذلك يدل بدلالة الأولى على ذهول غيرها من النساء والرجال. وقد حصل من هذه الكناية دلالة على جميع لوازم شدة الهول وليس يلزم في الكناية أن يصرح بجميع اللوازم لأن دلالة الكناية عقلية وليست لفظية. والتحقت هاء التأنيث بوصف ( مرضعة) للدلالة على تقريب الوصف من معنى الفعل ، فإن الفعل الذي لا يوصف بحدثه غير المرأة تلحقه علامة التأنيث ليفاد بهذا التقريب أنها في حالة التلبس بالإرضاع ، كما يقال: هي ترضع. ولولا هذه النكتة لكان مقتضى الظاهر أن يقال: كل مرضع ، لأن هذا الوصف من خصائص الأنثى فلا يحتاج معه إلى الهاء التي أصل وضعها للفرق بين المؤنث والمذكر خيفة اللبس. وترى الناس سكارى وماهم بسكارى رووووووعة /ياسر الدوسري - YouTube. وهذا من دقائق مسائل نحاة الكوفة وقد تلقاها الجميع بالقبول ونظمها ابن مالك في أرجوزته الكافية بقوله: وما من الصفات بالأنثى يخـص عن تاء استغنى لأن اللفظ نص وحيث معنى الفعل تنوي التاء زد كذي غدت مرضعة طفلا ولـد والمراد: أن ذلك يحصل لكل مرضعة موجودة في آخر أيام الدنيا. فالمعنى الحقيقي مراد ، فلم يقتض أن يكون الإرضاع واقعا. فأطلق ذهول المرضع وذات الحمل وأريد ذهول كل ذي علق نفيس عن علقه على طريقة الكناية. وزيادة كلمة ( كل) للدلالة على أن هذا الذهول يعتري كل مرضع وليس هو لبعض المراضع باحتمال ضعف في ذاكرتها.
فإن قلت: لم قيل أولا: ترون ، ثم قيل: ترى ، على الإفراد ؟ قلت: لأن الرؤية أولا علقت بالزلزلة ، فجعل الناس جميعا رائين لها ، وهي معلقة أخيرا بكون الناس على حال السكر ، فلا بد أن يجعل كل واحد منهم رائيا لسائرهم.
فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «أَبْشِروا؛ فإنَّ منكم رَجُلًا، ومِن يَأْجُوجَ ومَأْجُوجَ ألْفًا»، وهمُ القَومُ الَّذينَ بَنى بسَبَبِهم ذو القَرنينِ السَّدَّ المذكورَ في قولِه تعالَى: {فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا} [الكهف: 95]، وخُروجُهما مِن هذا الرَّدمِ أوِ السَّدِ عَلامةٌ مِن العلاماتِ الكُبرى ليَومِ القيامةِ.