اللهم قني عذابك طلبٌ للوقاية من العذاب، يوم تبعث عبادك ، وفي لفظٍ: يوم تجمع عبادك [8] ، والمعنى واحد؛ لأنَّ الجمع إنما يكون في ذلك اليوم بعد البعث والنُّشور، وذاك العذاب هو العذاب الذي لا يكون عذابٌ أعظم منه، وإلا فقد يحصل في الدنيا عذابٌ، قد عذَّب اللهُ أقوامًا، ولكن العذابَ الأكبر يوم القيامة: قني عذابك يوم تبعث عبادك. فهنا يقول هذا كلَّ ليلةٍ إذا أراد أن ينام: قني عذابَك يوم تبعث عبادك ، فهذا يجعل النومَ وسيلةً لذكر الموت، والبعث، وما بعده من العذاب، فهو يستحضر ذلك دائمًا، فنومه يقظة، ويقظته كذلك، وليس للغفلة إليه سبيلٌ بحالٍ من الأحوال، فهو إذا أراد أن ينام كما سبق يقول: باسمك اللهم أموت وأحيا [9] ، يتذكّر أنَّ نفسَه بيد الله ، ويتذكّر الموت، ويقول: إن أمسكتَ نفسي فاغفر لها وارحمها، وإن أرسلتَها فاحفظها ، وهذا الحفظ بما تحفظ به عبادك الصَّالحين [10] ، إلى آخر ما مضى. ومن هذه الأذكار أيضًا ما جاء عن حُذيفة قال: كان النبيُّ ﷺ إذا أراد أن ينام قال: باسمك اللهم أموت وأحيا [11] ، وهذا مُخرَّجٌ في "الصحيحين". فقوله: باسمك بعضُهم يقول: المراد به المسمّى، أي: بك يا الله أموت وأحيا. فالاسم تارةً يُطلق ويُراد به المسمّى، وتارةً يُطلق ويُراد به الاسم، ومعلومٌ أنَّ الأسماء هي تلك الألفاظ التي تدلّ على المسميات في الأصل، ولكن العرب تتوسّع في الكلام؛ فتارةً تُريد به المسمّى، وتارةً تُريد به الاسم، ولكن الجدلَ: هل الاسم هو عين المسمّى، أو لا؟ هذا جدلٌ لا طائلَ تحته، وإنما يشتغل بذلك أهلُ الكلام.
باسمك اللهم أموت وأحيا [12] ، بعضهم يقول: أي بذكر اسمك، عند مَن اعتبر الاسمَ هو المراد به الاسم، نفس الاسم، ومَن قال: المراد به المسمّى، قال: باسمك اللهم أي: بك يا الله أموت وأحيا، يعني: أحيا ما حييتُ، وعليه أموت. وهذا قريبٌ. ومن أهل العلم مَن قال: بأنَّ المقصود بالاسم هنا اسمٌ معينٌ، وهو (المميت) عند مَن عدَّ ذلك من الأسماء، وباسمه (المحيي)، يعني: يحيا باسمه (المحيي) أنَّ ذلك من مُقتضيات هذه الأسماء، ومن آثارها أنَّ الله يُحيي ويُميت، ولكن هذا لا يخلو من بُعْدٍ -والله تعالى أعلم-، لكن هؤلاء يقولون: هذه الأشياء الواقعة في الوجود هي صادرة عن أسمائه -تبارك وتعالى-، وما تضمّنتها من الأوصاف، وقد مضى الكلامُ على هذا مُفصَّلاً في الكلام على الأسماء الحسنى، ولكن تفسير ذلك في هذا الموضع -والله أعلم- لا يخلو من بُعْدٍ. وبعضهم يقول، عند مَن فسَّره بأنَّ المراد المسمّى، قال: يعني: أنني أموت وأحيا بإرادة الله ، والموت هنا من أهل العلم مَن فسَّره بالنوم، فهو موتة صُغرى، وقد ذكرنا الفرقَ بين الموتتين، وقلنا: إنَّ الموتَ الكبير، أو الموت الأكبر هو يكون بمُفارقة الروح للجسد مُفارقةً تنتفي معها الحياة، وأمَّا في النوم فتلك مُفارقة ينتفي معها الإدراك.
وقد ذكر هذا المعنى بعضُ أهل العلم، كالزَّجاج، فهو يقول: بأنَّ النفسَ التي تُفارق الإنسان عند النوم هي التي تكون للتَّمييز، ترتفع للإدراك، والتي تُفارقه عند الموت هي التي للحياة، والنوم يُقال له: موت. فبعضُ أهل العلم قال: باسمك اللهم أموت يعني: أنام، وأحيا يعني: أستيقظ. والواقع أنَّ ذلك جميعًا يدخل فيه، فهو إنما يموت بإماتة الله له، وإنما يحيا بإحيائه. وبعض أهل العلم قال: بأنَّ الحكمةَ من إطلاق الموت على النوم، يعني: كأنَّ هؤلاء يرون أنَّ ذلك من قبيل الاستعمال المجازي، وهذا فيه نظر؛ إذ إنَّ النومَ يُقال له: موت، فهو من أسمائه، وادِّعاء أنَّ ذلك من قبيل المجاز لا يخلو من تحكُّمٍ، لكن من أهل العلم مَن قال: بأنَّ الحكمةَ في إطلاق الموت على النوم أنَّ انتفاع الإنسان بالحياة إنما هو بتحري مرضاة الله -تبارك وتعالى-، وقصد طاعته، واجتناب مساخطه وعقابه، فمَن زال عنه هذا الانتفاع بالكُلية كان كالميت، وهو يحمد ربَّه -تبارك وتعالى- على هذه النِّعمة، وزوال ذلك المانع. فهؤلاء بمعنى: أنَّه إذا صار إلى حالٍ يرتفع معها الإدراك، فلا يذكر الله ، فهو في عداد الأموات، وأنَّ الحياة الحقيقية هي التي تكون مع ذكر الله، وطاعته، والعمل الصَّالح.
انتهى. ومما يدل على أن هذه الأذكار ليست خاصّة به صلى الله عليه وسلم، أنه كان يعلمها أصحابه, ويحثهم على المواظبة عليها، ومن ذلك: ما ورد في الحديث المتفق عليه عن البراء بن عازب ، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: إذا أتيت مضجعك، فتوضأ وضوءك للصلاة، ثم اضطجع على شقك الأيمن، ثم قل: اللهم أسلمت وجهي إليك، وفوضت أمري إليك، وألجأت ظهري إليك، رغبة ورهبة إليك، لا ملجأ ولا منجا منك إلا إليك، اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، وبنبيك الذي أرسلت. فإن مت من ليلتك، فأنت على الفطرة، واجعلهن آخر ما تتكلم به. قال: فرددتها على النبي صلى الله عليه وسلم، فلما بلغت: اللهم آمنت بكتابك الذي أنزلت، قلت: ورسولك، قال: «لا، ونبيك الذي أرسلت». وقوله صلى الله عليه وسلم أيضًا لعلي و فاطمة -رضي الله عنهما- لما زارهما ليلًا: ألا أدلكما على ما هو خير لكما من خادم؟ إذا أويتما إلى فراشكما، أو أخذتما مضاجعكما، فكبّرا ثلاثًا وثلاثين، وسبّحا ثلاثًا وثلاثين، واحمدا ثلاثًا وثلاثين، فهذا خير لكما من خادم. متفق عليه. ولمزيد الفائدة عما يختص بالنبي صلى الله عليه وسلم من أمور، راجع الفتوى رقم: 183057. والله أعلم.