كل المداخل المؤدية إلى الميادين التي تجتازها جنازة الرئيس أغلقت تماما.. حركة المرور متوقفة منذ الصباح لا شيء في الشوارع سوى طوفان من البشر. بدأت الجنازة الرسمية لكنها سرعان ما ذابت بعد عشرة أمتار فقط بين الجموع المحتشدة. تستمر الجنازة لما يزيد عن أربع ساعات.. كان الكل يردد هتافا واحدا بصوت باكٍ "يا جمال يا حبيب الملايين". الملايين لا يحتملون رؤية نعش عبد الناصر.. يحاولون الاقتراب منه.. ربما لم يمت!. محاولات مضنية من رجال الجيش والشرطة لتأمين الجنازة التي خرجت -بدافع الحب والحزن- عن أي سيطرة.. فالأعداد غير مسبوقة والانفعال يتجاوز الاحتمال بللت الدموع الحروف وجرفت الآهات الحلوق واكتست الشوارع بلون الحداد. لقد مات ناصر … وزاد حجم القلق بقدر كل هذا الحزن المقيم في الصدور.. مات في لحظة صعبة ووضع سياسي معقد. كيف مات جمال عبد الناصر. رحل جمال عبد الناصر وما زال جرح الوطن غائرا، وسيناء في قبضة المحتل، والقضية العربية في أزمة حادة عقب أحداث أيلول الأسود، وصراع الدم الفلسطيني/الأردني. رحل ومرارة الهزيمة في يونيو ما تزال ساكنة في الحلق، رغم بطولات حرب الاستنزاف، وبسالة جنود أوجعتهم الهزيمة القاسية، لكنها لم تكسرهم، وانهيار معنوي أصاب عشرات المثقفين الذين بُشّروا بالجنة والنصر وبساتين الاشتراكية. "
هل نستعد ؟ رغم إنها لم تكن المرة الأولى التي يموت فيها.. إلا إن صدمة موت جمال عبد الناصر هذه المرة كانت قاسمة. نعم مات عبد الناصر قبل ذلك في 67 لكن خروج الجماهير لإثناءه عن التنحي اعادته إلى الحياة من جديد. أما وقد صعدت روحه إلى بارئها فما الذي يستطيعه البشر امام القضاء و القدر. كان تعلق الناس بعبد الناصر شديدا.. ربما اقوى من تعلقي بيد أمي و انا طفل في الصف الرابع الإبتدائي أقف وس ط الجموع في ميدان رمسيس صباح يوم 29 سبتمبر 1970 ليتساءلوا: هل مات حقا جمال؟ لازلت أتذكر النساء يلبسن السواد و ينتحبن… و الرجال يطالعون جرائد الصباح في ذهول. نعم… مات عبد الناصر…. ولم تمت مصر و يوم قُتل السادات ، ورغم كره الكثيرون له، فقد كانت صدمة الناس شديدة… لكن السبب كان مختلفا بإختلاف ملابسات الوفاة وما سبقها أو لحقها من أحداث. ربما كان القلق و الخوف اوضح من الحزن في حادثة إغتيال السادات. كيف مات جمال عبد الناصر تمب. كانت إسرائيل لاتزال جاثمة فوق سيناء، وكانت الجماعات الإرهابية (تبرطع) في البلاد شمالا و جنوبا، وكان القاتل من الجيش لذلك كان الخوف عظيما. و مات السادات…. وعاشت مصر و حتى حين تنحى مبارك في 2011، ورغم فرحة الكثيرون التي لها ما يبررها، فقد كان البعض – وأنا منهم- يحسون بالقلق الشديد، ليس كما يظن السفهاء حزنا على رحيل مبارك و نظامه، ولكن خوفا على مصر مما ينتظرها بسبب ما كان واضحا للبعض من مؤامرة كبرى تستهدف الوطن وليس النظام وحده.
كبير الأطباء الروس: كيف تم شفاء جمال عبد الناصر في روسيا ولماذا مات في مصر؟ أدلى الكثيرون بشهادتهم بشأن مرض جمال عبد الناصر وأسباب وكيفية وفاته، لكن هناك شهود مهمين لم يتم تسليط الأضواء علي شهادتهم بالقدر الكافي ربما لصالح هدف الزعم بأن جمال عبد الناصر مات مقتولا بفعل مؤامرة خفية. البروفسير "يفغيني شازكوف" كبير أطباء الكريملين في نهايات عهد جمال عبد الناصر يكشف عن شهادة الجانب الروسي على مرض جمال عبد الناصر ووفاته وذلك في مذكراته المنشورة بعنوان "مذكرات كبير أطباء الكرملين.. الصحة والسلطة" وتأتي أهمية مذكرات الدكتور شازكوف من طبيعة المنصب الذي شغله إذ شغل منصب رئيس "الادارة الرابعة" للصحة بالكريملين بين عامي 1967 و1985 كما أنه أصبح وزيرا للصحة حيث كان آخر وزير للصحة في الاتحاد السوفيتي السابق. وكانت "الادارة الرابعة" بوزارة الصحة السوفيتية تتبع زعماء الكرملين ورئاسة المخابرات (كي. جي. كيف مات جمال عبد الناصر 1967. بي) مباشرة وضمت هذه الادارة عدد محدود من المستشفيات والعيادات في العاصمة موسكو وفي عواصم الجمهوريات السوفيتية السابقة وفي شبه جزيرة القرم، وعمل في تلك الادارة أنبغ الأطباء السوفييت وقد تم تزويدها بأحدث الأجهزة العلمية والطبية في العالم.
ويضيف فهيم: "لقد حاولت دخول غرفة النوم لألقى عليه النظرة الأخيرة، لكنى لم أتمكن من ذلك، كان الزحام شديدا، الكل في حالة ذهول، ولا أذكر من الذى اقترح نقل الجثمان إلى الثلاجة بقصر القبة، ريثما يتم الانتهاء من الإعداد اللازم لإجراءات الجنازة". ويكمل: "… رغم انتقال الجثمان في نفس ليلة الوفاة إلى قصر القبة، إلا أن البيت ظل على حالة من الزحام الشديد، أناس يدخلون وأناس يخرجون، معزون من كل مكان، من العائلة ومن غير العائلة، ولم يعد في مقدور أحد السيطرة على شيء، أي شيء، حتى نفسه". في منزل الرئيس كان الأطباء يحاولون إنقاذه بينما يقف على باب الغرفة المتسعة عدد كبير من رفاق دربه وكبار المسئولين في الدولة.. كان الملمح الأساسي على كل الوجوه، هو ذلك الشعور بالدهشة، وذلك الإحساس المختلط بين القلق والحزن الشديد. هل آن أوان رحيل ناصر؟ أنه شيء لا يمكن تصديقه! صحيح أن الموت حق لكن ماذا نحن فاعلون؟ إذا رحل ناصر في ذلك التوقيت، وتلك الاوضاع السياسية المرتبكة. الطياريين السعوديين وجمال عبدالناصر .. قصة أعقد أزمات الرياض مع مصر. في صحيفة الأهرام كان الوصف دقيقا: "وقف الشعب المصري وأمته العربية والعالم كله أمام فجيعة بغير حدود، مفاجأة كأنها الصاعقة وذلك بانتقال الرئيس جمال عبد الناصر بطل هذه الأمة وقائدها ومعلمها إلى رحاب الله.. وكان ذلك إثر نوبة قلبية مفاجئة أحس بأعراضها، وهو في مطار القاهرة الدولي يودع أمير الكويت الذي كان آخر من غادر القاهرة من الملوك والرؤساء العرب الذين شاركوا في اجتماع القاهرة الكبير لبحث أزمة الأردن".
المصدر
مازلت أذكر كيف بكيت في أول زيارة لي إلى مصر؛ فعندما بدأت مباني القاهرة تضحك أمامنا كلما اقترب التاكسي من مشارفها، شعرت بأنني أدخل الجنة.. أضعت قلبي، كما أضاعه «عزيزها»، وكدت مثله «من بهجة اللقيا ونشوتها، أرى الدُنا أيكةً والدهر بستانا». وأذكر أيضًا أننا طلبنا، قبل الوصول إلى الفندق، أن نزور ضريح الزعيم جمال عبد الناصر. جمال عبد الناصر… غصة وذكرى وضريح - thefreedomfirst. تسمّرت في حضن الهيية المدفونة. حضرتني مشاهد الجنازة التي أقمناها في "كفر ياسيف"، والأغاني التي حفظناها في «صاحب الصورة» ورددناها في شبابنا، أسوة باغاني العشاق وتباريحهم من حب وجوى؛ وسمعنا صوت نزار قباني يتمتم: «قتلناك يا آخر الانبياء قتلناك». أكلتنا الحسرة ونحن أمام القبر، الذي يشهد على جهل أمة وعلى ضياع أحلامها، ويبكي على رجل كاد بإيمانه وبعزيمته أن يقبض على شرايين القدر، ويقدم دماءه أزاهير لشعوب أحبها حرة، لكنها نَخت تحت أوزار جهلها وعطلها الخنوع، حتى باتت لا تفرق بين أطواق تدمي رقابها ومعاصمها، وأطواق النجاة والنرجس. أحببنا ناصرنا بعيدًا عن التفاصيل الخاصة في سنوات حكمه، التي بسببها اختلف ويختلف الفرقاء عليه ومعه؛ وسنبقى نحبه كعطرٍ لوردة خالدة، فهو القائد الشجاع الذي أراد أن يصهر المعجزات كي يقهر الأعداء، ويزرع في بلده المستقبل الآمن؛ ولأنه ابن الحتة، المؤنس الأسمر، الذي جاء مؤمنًا بالإنسان العربي وبعزيمته، ومصممًا على بناء دولة عصرية يحكمها القانون وبأدواته، أو كما قال فيه أحمد فؤاد نجم «فلاح قليل الحيا، إذا الكلاب سابت، ولا يطاطيش للعدا، إذا السهام صابت، عمل حاجات معجزة، وحاجات كتير خابت، وعاش ومات وسطنا، على طبعنا ثابت».