إن شمسنا تنتمي لمجرة تشبه المجرة التي نراها في الصورة. انظروا كيف أن الظلام يحيط بهذه المجرة ويغشاها، وعندما نبتعد عن هذه المجرة تظهر مثل نقطة باهتة في الظلام السحيق، انظروا معي إلى هذه المجرات البعيدة والتي يغشاها الظلام من كل جانب: صورة لعدد من المجرات (وكل مجرة تحوي مئات المليارات من النجوم) هذه المجرات تسبح بنظام دقيق، ويغشاها الظلام ويشكل أكثر من 99% من الجزء المدرك من الكون. ولذلك فإن وجود هذا القسم بالليل وبهذه الصياغة: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى) ، هو دليل على أن صاحب هذا القسم يرى الكون من فوق، أي هو خالق الكون عز وجل. والدليل على ذلك أن الناس في زمن نزول القرآن لم يكونوا يفرقون بين الليل والنهار علمياً. والليل اذا يغشي الليل. فكما نعلم فإن النهار هو الضوء وهو عبارة عن "فوتونات" بينما الظلام هو غياب هذه الفوتونات الضوئية. وبالتالي فإن القرآن عندما يستخدم كلمة (يَغْشَى) مع الليل فهذا استخدام صحيح علمياً لأن الليل بالفعل يحيط بالضوء من كل جوانبه. بينما نجد أن هذه الكلمة لا تُستخدم مع النهار أبداً، أي أن الله تعالى لم يقل "والنهار إذا يغشى" بل قال: (وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى) ليدلنا على أن النهار أو الضوء يزيح الظلام ويبعده ويأخذ مكانه، وهذا بالضبط ما يحدث.
ولما كانت هذه الحقيقة منوعة المظاهر: إن سعيكم لشتى. فأما من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى. وأما من بخل واستغنى وكذب بالحسنى فسنيسره للعسرى.. وكانت العاقبة كذلك في الآخرة مختلفة وفق العمل والوجهة: فأنذرتكم نارا تلظى. لا يصلاها إلا الأشقى. الذي كذب وتولى. وسيجنبها الأتقى، الذي يؤتي ماله يتزكى... لما كانت مظاهر هذه الحقيقة ذات لونين، وذات اتجاهين.. كذلك كان الإطار المختار لها في مطلع السورة ذا لونين في الكون وفي النفس سواء: والليل إذا يغشى. والنهار إذا تجلى.. الدرر السنية. وما خلق الذكر والأنثى.. وهذا من بدائع التناسق في التعبير القرآني. والليل إذا يغشى. وما خلق الذكر والأنثى... [ ص: 3921] يقسم الله - سبحانه - بهاتين الآيتين: الليل والنهار. مع صفة كل منهما الصفة المصورة للمشهد. والليل إذا يغشى.. الليل حين يغشى البسيطة، ويغمرها ويخفيها. والنهار حين يتجلى ويظهر، فيظهر في تجليه كل شيء ويسفر. وهما آنان متقابلان في دورة الفلك، ومتقابلان في الصورة، ومتقابلان في الخصائص، ومتقابلان في الآثار.. كذلك يقسم بخلقه الأنواع جنسين متقابلين: وما خلق الذكر والأنثى.. تكملة لظواهر التقابل في جو السورة وحقائقها جميعا.
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: (واذكر في الكتاب مريم)، والمراد في الكتاب هنا القرآن الذي أنزله الله عليه، أي: اذكر يا محمد للناس في آيات القرآن التي أنزلتها عليك، قصة مريم وحملها بعيسى ووضعها له، واتل عليهم هذه الآيات وأسمعهم إياها. وذكرك لهذه الآيات دليل على أنك رسول الله، وأن الله هو الذي أنزلها عليك، فلولا إنزالها عليك من الله لما علمت بها، لأنك أمّيٌّ لم تتعلمها من أحد ولم ترد في كتب النصارى على ما وردت في القرآن، وهذا الحديث يدل على إثبات نبوة محمد وتقرير حقيقة أن القرآن كلام الله تعالى. قال تعالى: (واذكر في الكتاب مريم اذ انتبذت من أهلها مكاناً شرقياً)، خرجت مريم من عند أهلها وابتعدت عنهم وانفردت من دونهم وذهبت إلى مكان جهة الشرق، أي شرق بيت المقدس، وإما توجهت إلى ذلك المكان لتعتكف وتختلي في العبادة، ففي الخلوة رياضة للنفس وسموٌّ بالروح وشد للهمة وصفاء للقلب وزيادة قرب من المولى عز وجل. القرآن الكريم - تفسير ابن كثير - تفسير سورة مريم - الآية 17. وجاءها الملَك في هذا المكان الطاهر المبارك حيث البركات والرحمات والنفحات. " تمثل جبريل عليه السلام لمريم وهو صورة شاب سويِّ الخلق، لتستأنس به ولا تنفر منه، ولتتفهم كلامه ولأنها لا تطيق رؤيته بصورته الأصلية " لما ذهبت إلى ذلك المكان الشرقي، اتخذت حجاباً ساتراً يسترها عن أهلها وعن الناس الآخرين، حتى لا يشغلها شيء عن العبادة وعن رؤية أنوار الحق.
حدثنا القاسم، قال: ثنا الحسين، قال: ثني حجاج، عن ابن جريج، قوله ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا) قال: جبريل. حدثني محمد بن سهل، قال: ثنا إسماعيل بن عبد الكريم، قال: ثني عبد الصمد بن معقل بن أخي وهب، قال: سمعت وهب بن منبه ، قال: أرسل الله جبريل إلى مريم، فَمَثَل لها بشرا سويا. حدثني موسى، قال: ثنا عمرو، قال: ثنا أسباط، عن السديّ، قال: فلما طهرت، يعني مريم من حيضها، إذا هي برجل معها، وهو قوله ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا) يقول تعالى ذكره: فتشبه لها في صورة آدميّ سويّ الخلق منهم، يعني في صورة رجل من بني آدم معتدل الخلق.