أما بعد، فان أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، وبعد: { فليعبدوا رب هذا البيت! } أيها المسلمون ، يا عباد الله: قال الله تعالى: {لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)}.
ودخلت الفاء لأجل ما في الكلام من معنى الشرط، لأن المعنى: إما لا فليعبدوا لإيلافهم، على معنى أن نعم الله تعالى عليهم لاتحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه، فليعبدوه لشأن هذه الواحدة، التي هي نعمة ظاهرة. والبيت: الكعبة. وفي تعريف نفسه لهم بأنه رب هذا البيت وجهان: أحدهما: لأنه كانت لهم أوثان فميز نفسه عنها. إعراب القرآن الكريم: إعراب فليعبدوا رب هذا البيت (3). الثاني: لأنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك، تذكيراً لنعمته. وقيل:" فليعبدوا رب هذا البيت" أي ليألفوا عبادة رب الكعبة، كما كانوا يألفون الرحلتين. قال عكرمة: كانت قريش قد ألفوا رحلة إلى بصرى ورحلة إلى اليمن، فقيل لهم:" فليعبدوا رب هذا البيت" أي يقيموا بمكة. رحلة الشتاء، إلى اليمن، والصيف: إلى الشام.
الثاني: أنهم بالبيت شرفوا على سائر العرب، فذكر لهم ذلك تذكيراً بنعمته. وفي معنى هذا الأمر والضمير في دخول الفاء على قوله {فليعبدوا} أربعة أوجه: أحدها: فليعبدوا رب هذا البيت بأنه أنعم عليهم برحلة الشتاء والصيف. الثاني: فليألفوا عبادة رب هذا البيت كما ألفوا رحلة الشتاء والصيف. الثالث: فليعبدوا رب هذا البيت لأنه أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف. الرابع: فليتركوا رحلة الشتاء والصيف بعبادة رب هذا البيت، فإنه يطعمهم من جوع ويؤمنهم من خوف ليتوفروا بالمقام على نصرة رسوله والذب عن دينه. فليعبدوا رب هذا البيت. {الذي أطْعَمَهم من جُوعٍ} فيه ثلاثة أقاويل: أحدها: أطعمهم من جوع بما أعطاهم من الأموال وساق إليهم من الأرزاق، قاله ابن عيسى. الثاني: أطعمهم من جوع بما استجاب فيهم دعوة إبراهيم عليه السلام. حين قال: {وارْزُقهم من الثمرات} قاله ابن عباس. الثالث: أن جوعاً أصابهم في الجاهلية، فألقى الله في قلوب الحبشة أن يحملوا إليهم طعاماً، فحملوه، فخافت قريش منهم وظنوا أنهم قدموا لحربهم، فخرجوا إليهم متحرزين، فإذا هم قد جلبوا إليهم الطعام وأعانوهم بالأقوات، فهو معنى قوله {الذي أطعمهم من جوع}. {وآمَنَهُم مِنْ خوْفٍ} فيه أربعة أقاويل: أحدها: آمنهم من خوف العرب أن يسبوهم أو يقاتلوهم تعظيماً لحرمة الحرم، لما سبقت لهم من دعوة إبراهيم عليه السلام حيث قال: {ربِّ اجْعَلْ هذا بلداً آمِناً} ، قاله ابن عباس.
وقوله: ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) يقول: فليقيموا بموضعهم ووطنهم من مكة, وليعبدوا ربّ هذا البيت, يعني بالبيت: الكعبة. فليعبدوا رب هذا البيت الذي. كما حدثني يعقوب بن إبراهيم, قال: ثنا هشيم, قال: أخبرنا مُغيرة, عن إبراهيم, أن عمر بن الخطاب رضى الله عنه, صلى المغرب بمكة, فقرأ: ( لإيلافِ قُرَيْشٍ) فلما انتهى إلى قوله: ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) أشار بيده إلى البيت. حدثنا عمرو بن عليّ, قال: ثنا عامر بن إبراهيم الأصبهاني, قال: ثنا خطاب ابن جعفر بن أبي المغيرة, قال: ثني أبي, عن سعيد بن جُبير, عن ابن عباس, في قوله ( فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ) قال الكعبة. وقال بعضهم: أمروا أن يألفوا عبادة ربّ مكة كإلفهم الرحلتين. *ذكر من قال ذلك: حدثنا عمرو بن عبد الحميد الآمُلِيّ, قال: ثنا مروان, عن عاصم الأحول, عن عكرِمة, عن ابن عباس, في قول الله: ( لإيلافِ قُرَيْشٍ) قال: أُمروا أن يألفوا عبادة ربّ هذا البيت, كإلفهم رحلة الشتاء والصيف.
اللهم أعزنا بعزة حولك وقوتك ونصرك العزيز ، فإننا الضعفاء إلا بك ، والحقراء إلا منك ، وأنت العليم بنا ،نعوذ بك من شر الشيطان وشركه ، ونجنا يا إلهنا من شر نفوسنا وشر كل ذي شر إنك سميع الدعاء ، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنه هو التواب الرحيم. الخطبة الثانية:الحمد لله حمدا يكافي نعمه ، ويوافي مزيده ، والصلاة والسلام على نبيه محمد ، وعلى آله السعداء ، وأصحابه الأوفياء ، ومن اتبعهم بإحسانٍ إلى يوم اللقاء والجزاء ، وعنا معهم بفضلك رب كل شيء ورب الأرض والسماء ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله. أما بعد ،أيها المؤمنون يا إخوة الإسلام: إخوة الإسلام يا عباد الله: ولذلك كانت لهم آيتان تدلان على جليل العناية رغم عظيم الجناية: * أولاهما كان البيت الحرام حرماً آمناً ، بينما يُتَخَطَّفُ الناسُ من حولهم. * ثانيتهما كانوا بوادٍ غير ذي زرع ولكن يجبى إليه ثمرات كل شيء. مصداق ذلك ما قال تعالى في سورة القصص: {وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)}.